وجوهٌ في حقول الموت.. فتيات سوريا ينقذن الحياة من بين أنياب الألغام

على أرضٍ اعتادت على صخب القذائف أكثر من زقزقة العصافير وفي بلدٍ مضرج بالدم والألم وتشبّع بصدى الانفجارات بدلًا من ضحكات الأطفال لنحو أربعة عشر عامًا، لم يعد الغبار وحده ما يثقل صدور السوريين، بل أيضًا رعبٌ صامت مزروع تحت التراب.
لكن وسط هذا الخراب المتراكم، تنبت بذور شجاعة غير متوقعة، تتمثل في نساء يخضن معركة غير تقليدية، نساء لم يرفعن السلاح لقتال أحد، بل نزلن إلى الحقول يمسكن بأدوات الكشف، ويرتدين السترات الثقيلة، لا لينقّبن عن الذهب، بل عن بقايا الموت، فهنّ المنقذات الصامتات، في صراع يهدد كل شبر في سوريا، حيث لا تزال الألغام ومخلفات الحرب التي خلفها النظام السابق تحصد الأرواح.
وتحمل كل امرأة من هؤلاء قصة فريدة، محاطة بالخسارات والذكريات، لكن يجمعهن وعيٌ صارم بأن الأرض التي يحرثها الخوف لا تُورّث إلا موتًا، صبا، وياسمين، ولمى، ثلاث نساء سوريات تحوّلن من ضحايا إلى بطلات يوميات، كل واحدة منهن تمسك بأدوات كشف لا تنبّه فحسب إلى الخطر، بل تُبقي الأمل حيًا في مدن لم تعرف الطمأنينة منذ زمن ليس بالقريب.
فمن خلف قناع واقٍ وسترة ثقيلة، تقف صبا عبد الكريم، خريجة الهندسة الزراعية، نائب قائد فريق إزالة مخلفات حربية في منظمة HALO Trust العالمية، التي لم تختر العمل في إزالة الألغام اعتباطًا، وكان دافعها مشحونًا برغبة عميقة في حماية الأرواح، وإحياء الأمل في مجتمع أنهكته الصراعات، وتقول: «العمل في إزالة المخلفات الحربية ليس كأي وظيفة، هو رسالة إنسانية بالغة النبل، فكل لغم يُزال هو حياة تُستعاد».
ضحايا الألغام في سوريا 2024
خرائط الألغام في سوريا
من خلال قواعد بيانات الشبكة السورية لحقوق الإنسان، والتي تشمل توثيقًا دقيقًا لضحايا ومصابي انفجارات الألغام والذخائر العنقودية، تم إعداد خرائط تقريبية توضح المناطق التي يُرجّح أنها ملوثة بالألغام في مختلف المحافظات السورية:
وتُبرز هذه الأرقام والخرائط، الفظاعة الحقيقية للتهديد الذي لا يزال يلاحق المدنيين في سوريا، وتعكس حجم المخاطر التي تواجهها هؤلاء الفتيات، ليصبحن بذلك رموزًا حقيقية للتحدي في مواجهة الموت الصامت.
صبا.. حين تصبح الأم ملجأً وأمانًا في وجه القذائف
ورغم المخاطر النفسية والجسدية، التي تبدأ من رؤية آثار الدمار على الضحايا، ولا تنتهي عند التفكير بأن زلة صغيرة قد تكون قاتلة، تصرّ صبا على المضي قدمًا بعدما خضعت لتدريبات مكثفة أشرف عليها خبراء دوليون، لتكون قادرة على اتخاذ كل خطوة بحذر شديد ومسؤولية عالية.
فقد منح العمل، صبا، الكثير من الشجاعة، والصبر، مع إحساس عميق بالمسؤولية، بل أصبحت كما تصف، مصدر أمان لأطفالها الذين يرون فيها بطلتهم الحقيقية، وتقول بابتسامة ممزوجة بالفخر: «أطفالي يتفاخرون بي، ويفتحون هاتفي ليشاهدوا فيديوهات التفجيرات التي نفذتها، يضحكون ويصفقون.. ويقولون: «لما نكبر، بدنا نشتغل مثل ماما».
ولم تنكر صبا خوف عائلتها عليها، لكنه خوف مخلوط بالفخر، وبإيمان أنها تؤدي مهمة وطنية حقيقية، وتوضح: «في البداية كان المحيط مندهشًا: كيف لامرأة أن تعمل في مجال يُعتبر ذكوريًا؟ اليوم، أثبتنا أن بناء الوطن لا يعرف جنسًا، بل إرادة».
وتضيف: «في كل يوم يبدأ عملي مع فريق إزالة المخلفات الحربية في منظمة HALO Trust بنغمة واحدة: أصوات البلاغات التي تصلنا عبر أرقام الواتساب الخاصة بالسكان، الذين صاروا أعيننا في الحقول والقرى التي ما زالت تنبض بالرعب والصمت المريب، بلاغات كثيرة، وفي أوقات متزامنة، تتطلب منا أن نختار بعناية شديدة المكان الذي سنتوجه إليه أولاً، حسب خطورة البلاغ وأهمية إنقاذ الأرواح التي قد تكون على مقربة من هذه المخلفات القاتلة».
«نحن خمسة فرق فقط، ولكل فريق مناطقه التي يتحرك فيها، لكن العدد الإجمالي للعاملين في هذا المجال لا يتجاوز العشرين شخصاً، ومع هذا العدد القليل، نحاول أن نكون حاضرِين في كل مكان، متجاوزين ضغط البلاغات التي تكاد لا تنتهي، وحريصين على تقديم الأمان حيث تُزرع المخاطر»، وفقًا لـ صبا.

وتذكر صبا موقفًا لن تنساه أبدًا، إذ تقول: «كنا في إحدى المناطق العمل، ودخل علينا طفل صغير، لم نلحظه إلا متأخرًا، وكان يحمل بين يديه قنبلة عنقودية حساسة جدًا، وكان الطفل قد جلبها ليبلغنا عنها، لكنه لم يكن يدرك خطورة ما بيده، لوهلة، وقف الوقت، وشعرت بثقل المسؤولية يتضاعف في تلك اللحظة».
ورغم خطورة الموقف تعاملت صبا بغريزة الأم، وتقول: «بهدوء وبدون أن أُفزعه، طلبت منه من مسافة بعيدة أن يضع القنبلة على الأرض وأن يبتعد فورًا، كانت رسالة الطمأنينة التي منحتها له ضرورة ملحة حتى لا يتسبب خوفه فى ردة فعل خاطئة قد تؤدي إلى كارثة، وبعد أن وضع القنبلة وتراجع، اقتربت منه وشرحت له بلغة بسيطة وصادقة أن هذه المخلفات الحربية خطيرة للغاية، من الوارد أن تنفجر في أي لحظة، ومن الضروري ألا يلمس مثل هذه الأشياء مرة أخرى».
بالتأكيد كان هذا الموقف درسًا قاسيًا لـ صبا، لكنه جعلها أكثر يقينًا بأن مهمتها تتعدى إزالة الألغام وحدها، فهي تشمل أيضًا حماية حياة الأطفال، وتأمين مستقبلهم.. وتضيف: «كل لغم يُزال، هو حياة تؤمن ، وكل تحذير يُقال، هو ضوء أمل جديد في بلادنا».
جهود الدفاع المدني السوري
وفي خضم المشهد الميداني المعقّد، حيث لا تزال الأرض في سوريا تختزن ما خلفته سنوات الصراع، تواصل فرق الدفاع المدني السوري جهودها لإزالة هذا الخطر الصامت الذي يهدد الأرواح يوميًا.
ضحايا مخلفات الحرب في سوريا (يناير - مايو 2025):

وفي تصريح خاص، يؤكد محمد سامي المحمد، مسؤول الذخائر غير المنفجرة في الدفاع المدني السوري، أن عام 2025 شهد تقدمًا ملموسًا في جهود الإزالة، بفضل الجمع بين المسح غير التقني، والعمل الميداني المباشر، والتوعية المجتمعية الواسعة.
ويقول المحمد: «أسهمت فرقنا بشكل مباشر في رفع مستوى الأمان في المجتمعات المحلية، وخاصة في المناطق التي عانت طويلاً من التلوث الواسع بالمخلفات الحربية. وقد انعكس ذلك في انخفاض ملحوظ بعدد الحوادث والإصابات خلال الأشهر الماضية».
لكن الطريق ما يزال محفوفًا بالتحديات، وبحسب المحمد، يواجه الدفاع المدني عجزًا واضحًا في عدد الفرق الميدانية مقارنة بحجم التلوث القائم، إلى جانب محدودية المعدات الهندسية ووسائل الحماية الشخصية، وصعوبات الوصول إلى المناطق المدمّرة أو ذات الوضع الأمني الهش، كلها عوامل منفردة أو مجتمعة تمثل عقبة فى تنفيذ الأنشطة بوتيرة ثابتة.
ورغم هذه التحديات، تلعب النساء دورًا محوريًا في المعركة ضد الموت الكامن تحت التراب، ويشرح المحمد قائلًا: «النساء يشاركن بشكل مباشر في أنشطة المسح غير التقني، والإزالة، وجلسات التوعية بمخاطر الذخائر، وخُصصت لهن برامج تدريبية متكاملة وفق معايير IMAS الدولية، تشمل التدريب الميداني، وإجراءات السلامة، والتواصل المجتمعي الفعّال، إلى جانب الدعم النفسي والاجتماعي».

وبحسب المحمد، لا يقتصر هذا التمكين على الجانب الفني فقط، بل يمتد لتعزيز دور النساء القيادي داخل الفرق، في محاولة لكسر الصور النمطية، وإبراز قدرتهن على حماية المجتمع جنبًا إلى جنب مع الرجال.
ويضيف: «نعمل بالتنسيق مع شركاء محليين ودوليين لتطوير حملات توعية تستهدف الفئات الأكثر عرضة للخطر، مثل الأطفال والمزارعين والعائدين إلى قراهم، كما نسعى لبناء أنظمة إنذار مبكر بالتعاون مع المجتمع المحلي، الذي نعتبره شريكًا محوريًا في جهود الوقاية والتبليغ والاستجابة».
وفيما يخص المستقبل، يشير المحمد، إلى أن الخطط تتجه نحو توسيع عدد الفرق، وتعزيز القدرات الفنية، وتحديث المعدات المستخدمة، مع دمج أنشطة إزالة الذخائر في خطط إعادة الإعمار وتأهيل البنية التحتية، بما يضمن بيئة آمنة لعودة المدنيين واستقرارهم.
ويختم: «إزالة الألغام ليست مجرد مهمة تقنية، بل هي شرط أساسي لعودة الحياة إلى طبيعتها، ولإعادة بناء وطن مزقته الحرب.. حجرًا حجرًا، ونفسًا نفسًا».
ياسمين.. من تحت ركام منزلها تولد الإرادة من جديد
على بعد أميال من رحلة صبا، تسير ياسمين العثمان، التي حملتها مأساة فقدان أخيها خالد، طالب الهندسة الشاب، تحت وابل الصواريخ في ريف إدلب، نحو مسار مماثل لكنه ينبض بألم شخصي أكبر، وبعدما فقدت ياسمين، شقيقها عام 2019، اختارت أن تحول ألمها إلى رسالة عمل وإنسانية، بدأت منذ عام 2016 في مجال التوعية ودعم ضحايا الحرب، ثم التحقت عام 2020 بمنظمة HALO Trust حيث أكملت تدريبات متقدمة على إزالة الألغام.
ياسمين خريجة كلية التربية، أم لثلاثة أطفال، تحكي تجربتها الخاصة والدموع تنهمر على خديها، وتقول: «استشهد خالد تحت ستة صواريخ فراغية، كان شابًا حالمًا، وخسارته كانت كافية لأتخذ القرار بألا يعيش أحد بعد اليوم هذا الألم، إن استطعت».
وتعتبر ياسمين، أن رسالتها اليوم تتجاوز الوظيفة، إذ تقول: «أنا أعمل كي يعود الناس إلى بيوتهم بأمان بعد 14 عامًا من النزوح والخوف».
ورغم التحديات المجتمعية ونظرات الاستغراب، لا سيما لمجالٍ كان يُنظر إليه سابقًا على أنه للرجال فقط، وجدت ياسمين دعمًا قويًا من عائلتها، واستمرت لأنها تؤمن أن سوريا تستحق أن تعود وطنًا صالحًا للعيش، وطنًا لا يهدد خطوات أطفاله لغم مدفون أو قنبلة صامتة.
وتقول بصوت مشوب بالوجع والأمل: «في سوريا، كل بيت فيه قصة.. فقد.. تهجير.. اعتقال، لكن الشعب ما زال متمسكًا بالحياة، وبإرادته يمكن أن ننهض من جديد».
حين تتحول الطفولة إلى هدف صامت
ووسط سكونٍ شتوي ثقيل في شمال درعا، وبين ضحكات خجولة لأطفال يلعبون قرب قاعدة عسكرية مهجورة، انفجرت الحقيقة كما لم يتخيلها أحد.
وفي 15 يناير الماضي، لم يكن معتصم كيوان - 12 عامًا - يدرك أن رصاصات الزمن المدفون قد تقلب حياته إلى الأبد، وخلال لحظة عابرة من اللعب، ألقى أحد الأطفال بقايا ذخائر في نارٍ مشتعلة، فحدث الانفجار.
وفي لحظة اختنقت أصوات الفرح بشظايا المعدن، تحوّل وجه معتصم إلى جرح مفتوح، بعدما اخترقت الشظايا رأسه وكتفه، وأفقدته السمع ، بينما أصيبت أعصاب وجهه بتلف دائم، ولم يعد قادرًا على فتح عينه اليمنى، وعلى إثر الواقعة أجرى الصغير جراحة دقيقة في الجمجمة، ومنذ ذلك الوقت أصبح حبيس نوبات من الذعر والخوف لا تغادره حتى وهو في حضن والدته.
وتقول والدته، سحر، وهي تضمه بقوة أقرب إلى اليأس من الطمأنينة: «أصبح خائفًا من كل شيء.. لا ينام إلا وهو ممسك بيدي».
ولم تكن القاعدة العسكرية، التي جرى الحادث قربها، مجهولة، إذ سبق قيام فرق أنشطة إزالة مخلفات بمسحها قبيل أيام من الحادث، لكن لم يُتخذ أي إجراء فعلي لتقييد الوصول أو تحذير الأطفال من الاقتراب.

المنزل الآمن لم يكن كذلك
وبعد أقل من أسبوعين فقط من مأساة معتصم، وتحديدًا في ليلة 27 يناير، لم تكن رنيم عبد الحكيم مسالمة، في مدينة درعا، تعلم أن بيتها سيصبح ضمن قائمة المشاهد المأساوية في سردية الموت الصامت.
في تلك الليلة، لم توقظها دقات المطر، بل انفجار مدوٍّ من داخل منزلها، بسببه فقدت أمها، وابنة أخيها البالغة من العمر سبع سنوات، بينما أصيبت مع 11 فردًا من العائلة، من بينهم ابنها بشار .
بشار، ذو الـ16 عامًا، عثر في وقت سابق من اليوم نفسه على سلاح حربي في قاعدة عسكرية غير محمية، لا تبعد سوى 100 متر عن منزله، فأخذه إلى غرفته، ربما ليتفاخر به أو يكتشفه فيما بعد، دون أن يعرف أن بين يديه عبوة موت مؤجلة.
وبالفعل انفجر السلاح بين يديه، فاحترق جزء كبير من المنزل، واستقرّت الشظايا في جسده، أما والدته، ففقدت أكثر من سقف بيتها، وتقول وصوتها مزيج بين الفقد والدهشة: «لم يكن لديه أدنى فكرة عن المخاطر، ولم نكن نعلم أن الحرب تركت قنابلها بين ألعاب أبنائنا».
وهنا تتقاطع قصة ياسمين مع قصة صبا التي مثلها، وجدت نفسها في ميدان غير تقليدي للمرأة، تحمل مسؤولية كبيرة لا تحصرها حدود الوظيفة فقط، بل تمتد لتكون حماية لكل ما هو ثمين: «الحياة، والأطفال، والوطن»، وتشبه هذه الروح تمامًا ما تشعر به لمى التي وجدت في عمل إزالة الألغام جسرًا بين الخطر والأمان.
لمى.. حين تصير الأم جسرًا بين الخطر والأمان
وفي أقصى زوايا الألم السوري، حيث لا تزال الأرض تنزف تحت وقع ما خلّفته الحرب، تقف لمى، الأم لثلاثة أطفال أيضا، كجدارٍ من نور في وجه الظلام، لم تكن نشأتها في قلعة المضيق التابعة لمحافظة حماة سوى بداية لقصة شابة حلمت ذات يوم أن تعيش حياة هادئة بعد تخرجها من قسم علم الحياة في جامعة تشرين، لكن الحرب كان لها رأي آخر.
وتقول لمى، التي هجرت إلى إدلب منذ عام 2019: «نعم، عملي مليء بالمخاطر، لكنه عمل إنساني في جوهره، كل مخلف حربي نُزيله هو حياة ننقذها، هو أمان يُستعاد».
وتعمل لمى منذ أكثر من ثلاث سنوات في منظمة THE HALO TRUST، إحدى أبرز المنظمات الدولية المختصة بإزالة الألغام والمخلفات الحربية، مهنتها ليست تفكيكًا فقط، بل إزالة شاملة للمخاطر من خلال تدمير الذخائر بالكامل، وغالبًا ما تنفذ هذه المهمة على يد فرق مجهّزة، بعضها ميكانيكي، يستخدم آليات مدرعة لدخول الحقول الملغومة بعد تأشيرها من قبل الفريق، ثم يتم التعامل مع الذخائر بالطرق المتخصصة لتدميرها وإنهاء خطرها نهائيًا.

وتعتبر لمى، وجود النساء في هذا الميدان هو مزيج نادر من المسؤولية والأمل، وتقول بفخر: «كسرنا الصورة النمطية عن المرأة، وأثبتنا أننا نستطيع أن نكون شريكات حقيقيات في حماية المجتمع، جنبًا إلى جنب مع الرجال، نجاحنا كان نتيجة هذا التعاون».
ورغم التحديات المجتمعية، وجدت لمى دعمًا حقيقيًا من أسرتها والمجتمع المحيط بها، حتى أن أحد كبار السن ممن شاهدها تعمل في الميدان خاطبها قائلاً: «الله محيي أصلك يا بنتي.. والله إنكن إخوات رجال».
وتستذكر لمى بداية التحاقها بالمجال، مشيرة إلى تدريبات متسلسلة خضعت لها على مدار شهور، بدءًا من التعرف على أنواع الذخائر، وصولًا إلى إجراءات التعامل معها والتخلص منها، إضافة إلى تدريبات طبية شاملة على الإسعافات الأولية، في حال وقوع إصابات ميدانية.
وتضيف بصوت يملؤه الإصرار: «في كل مرة ننزل فيها للميدان، نعيش خليطًا من الخوف والمسؤولية، لكننا نعمل وفق إجراءات دولية صارمة، ونقوم بتحديث معلوماتنا شهريًا.. هنا الحفاظ على سلامتنا وسلامة محيطنا أولوية دائمًا، ونجحت الفرق الخمسة في تفكيك 3083 لغم وذخائر غير منفجرة، منها 1063 تم بواسطة فريقي، وكانوا في إدلب وحلب وريفهما».
لكن التأثير الحقيقي لهذا العمل يتجاوز الإجراءات والتدريبات، وتوضح لمى: «أصعب لحظاتي كانت عندما رأيت أطفالًا أصيبوا بمخلفات الحرب.. بعضهم فقد القدرة على اللعب، وبعضهم تعثر فى طريقه إلى المدرسة، تلك اللحظات حفرت داخلي إيمانًا راسخًا بأنني في مهمة نبيلة، لا تنتهي إلا بزوال آخر مخلف حربي».
وترى لمى، أن عملها لا يسهم فقط في إزالة المتفجرات، بل في إزالة الخوف من قلوب المواطنين، وفي تمهيد الطريق لحياة آمنة، ليكون هذا العمل الخطوة الأولى نحو إعادة إعمار حقيقية، فكما تقول: «الإعمار لا يبدأ بالإسمنت، بل بالأمان».
وتختم حديثها بإيمان راسخ بقدرة المرأة السورية على بناء المستقبل، وتؤكد: «أنا كأم، أشعر أنني لا أحمي فقط أطفالي، بل أبناء بلدي جميعًا، أصبحت أكثر وعيًا وقوة، وأشعر أنني صانعة أمل، أشارك في رسم ملامح سوريا جديدة تستحق الحياة».
الألغام تحصد أرواح السوريين بصمت
وبينما كانت لمى تلقي نظرة أخيرة على الخريطة التي رسمتها يدويًا قبل نزولها إلى الميدان، كان خبرٌ جديد يرد إلى هواتف فريق «المرصد السوري لحقوق الإنسان» يُفيج بوقوع انفجار جديد، وضحية جديدة، وربما لم تكن الأخيرة في هذا اليوم.
«سوريا اليوم من أكثر بلدان العالم تلوثًا بالألغام ومخلفات الحرب»، بهذه الكلمات بدأ رامي عبد الرحمن، مدير المرصد السوري لحقوق الإنسان، حديثه معنا، مشيرًا إلى أن ما تركته أكثر من 13 سنة من النزاعات، ليس فقط خراب المدن، بل ما هو أخطر وأطول أمدًا، الذخائر التي لا تزال تتربص تحت التراب، مضيفًا: «الموت في سوريا ليس فقط في القصف أو القنص، بل في المشي، وفي الحقول، وفي الطرقات المهجورة، وأحيانًا تحت شجرة كمأة».
ضحايا الألغام ومخلفات الحرب في سوريا

ويؤكد عبد الرحمن أن ما تقوم به النساء مثل صبا وياسمين ولمى هو خطوة شجاعة وكسر للأنماط الجندرية، مشيرًا إلى أن مشاركة النساء في إزالة الألغام لم تعد مجرد استثناء، بل تتوسع ببطء في مناطق شمال شرق سوريا، رغم البيئة الأمنية المعقدة والتهديدات المتكررة.
ويضيف: «هؤلاء النساء لا يحظين بأي حماية قانونية نوعية، ولا توجد آليات إلزامية لحمايتهن أثناء العمل»، موضحًا أن القانون السوري لا يمنع النساء من المشاركة في أعمال إزالة الألغام، لكن الحماية على الأرض غير كافية، والتوثيق لانتهاكاتهن نادر جدًا.
ورغم ذلك، تتلقى فرق إزالة الألغام في سوريا إشرافًا نسبيًا من الجهات الدولية، بحسب عبد الرحمن، الذي أكد أن منظمات مثل HALO Trust تنسق عملها مع السلطات المحلية وتتلقى متابعة من الجهات المانحة، لكن مسألة الرقابة الفعلية ما زالت غير كافية لتأمين حماية العاملات أو ضمان جودة التدريب في كل المناطق.
ووفقًا للمرصد، فإن المشكلة الأعمق تكمن في غياب خرائط دقيقة لمواقع الألغام، ونقص الكوادر، وغياب التوعية المجتمعية، ويقول عبدالرحمن: «لهذا السبب لا تزال الأرقام ترتفع، رغم مرور سنوات على انتهاء المعارك الكبرى».
أما من الناحية القانونية، ينص القانون الدولي، على أن يلتزم أطراف النزاع بإزالة ما زرعوه من ألغام، ويمنع استخدام الأسلحة التي لا تميز بين المدنيين والعسكريين، ومع ذلك، لا تزال المحاسبة غائبة، والمسؤولية ضائعة بين سلطات أمر واقع، وقوى دولية لم تُنهِ دورها بعد، بحسب عبد الرحمن.
توزع ضحايا الألغام في سوريا حسب المناطق (2025)

وردًا على سؤال عن دور السكان المحليين، أشار عبد الرحمن، إلى أن البلاغات من الأهالي بدأت ترتفع، لا سيما بعد عودة النازحين، وزيادة حملات التوعية، مؤكدًا: «ثقة الناس هي سلاح إضافي في هذه المعركة الصامتة ضد الموت».
وفي ختام حديثه، أطلق عبد الرحمن، رسالة إلى المجتمع الدولي: «هؤلاء النسوة يتعرضن للخطر كل يوم، وهن بحاجة إلى حماية فعلية لا شعارات، ويجب دعم برامج التدريب والحماية، وتمكينهن من الوصول إلى الخدمات الأساسية، ومحاسبة كل من ينتهك حقوقهن».
ورغم سوداوية المشهد، يصرّ على بارقة الأمل قائلًا: «قد تحتاج سوريا لأجيال حتى تتخلص من هذه الحقول القاتلة، لكن لو تضافرت الجهود الدولية، وتم تمويل برامج التطهير وتدريب الفرق المحلية، يمكن أن نختصر المسافة نحو المستقبل، وننقذ أرواحًا كثيرة لم تولد بعد».
حرب بلا جبهات وطفولة بلا أمان
وما بين درعا، وإدلب، وحماة، تتكرر هذه القصص، وكأنها نُسِجت من سيناريو واحد: أطفال يلهون، وأمهات يحاولن صناعة لحظات هادئة وسط الفوضى، ثم صدمة، فمأساة، فذاكرة لا تشفى.