الحدود الإثنية.. طبيعة وحيثيات التصعيد الإسرائيلي الأخير في سوريا

شهدت الأيام الماضية تناميًا محلوظًا في وتيرة وطبيعة التصعيد الإسرائيلي في سوريا، وهو التصعيد الذي اكتسب أبعادًا مختلفة، جمعت بين تصريحات وزير المالية في حكومة اليمين المتطرف بتسلئيل سموتريتش والتي أشار فيها إلى أن إسرائيل “مصممة على تفكيك سوريا”، مرورًا بالاستهداف الإسرائيلي لمناطق قرب قصر الشعب في دمشق، ووصولًا إلى الإعلان عن تنفيذ عمليات لحماية الطائفة الدرزية في سوريا، وهي المواقف التي طرحت تساؤلات بخصوص طبيعة الأهداف الإسرائيلية من جراء هذا التصعيد، فضلًا عن حدود ارتباطها بمسألة التنافس التركي الإسرائيلي على سوريا الجديدة.
ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، برزت خلال الأيام الماضية العديد من المؤشرات المهمة، التي عبرت إجمالًا عن نمط من التصعيد الكبير وغير المسبوق ربما من قبل إسرائيل تجاه الجبهة السورية، منذ الإطاحة بنظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، ويُلاحظ في هذا السياق أن إسرائيل تمرر العديد من السرديات التي تحاول من خلالها إضفاء مسببات ومسوغات لاستهدافها الأراضي السورية، على غرار الحيلولة دون انتقال “الأسلحة” إلى أيدي “المتشددين”، و”حماية حدودها”، و”حماية الطائفة الدرزية ورعايتها”، فضلًا عن التخوفات من النفوذ التركي، وفي هذا السياق يُمكن رصد أبرز مؤشرات التصعيد الإسرائيلي الأخير في ضوء التالي:
1- السعي لتفكيك الدولة السورية: صرح وزير المالية الإسرائيلي ورئيس حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش في كلمة له منذ أيام بأن “إسرائيل لن تنهي الحرب إلا بعد تحقيق بعض الأهداف الاستراتيجية، وخصوصًا التخلص من حماس، وتهجير مئات مئات الآلاف من الفلسطينيين، وإنهاء التهديد النووي الإيراني، وإعادة المختطفين لدى حماس، وتفكيك سوريا”، مضيفًا أن “إسرائيل يجب أن تخرج من هذه المرحلة أقوى وأكثر ازدهارًا” وفق تعبيره.
وهنا يجب الإشارة إلى أن طرح “تقسيم سوريا” هو فكرة قديمة متجددة في الفكر الإسرائيلي ويُلاحظ في هذا السياق أن كافة أطروحات التقسيم الإسرائيلية تجاه سوريا جمعت مسألة الحدود الجغرافية بمسألة الأقليات الإثنية والعرقية خصوصًا الأقليات الكردية والدرزية، وهو أمر يرتبط ربما بخصوصية الحالة الإسرائيلية التي تعد أحد الأمثلة على تداخل الحدود السياسية الجغرافية والحدود الثقافية، حتى أن العديد من الدراسات التي تناولت نشأت الاحتلال الإسرائيلي تذهب إلى أن إسرائيل قامت بتحديد حدودها الإثنية قبل حدودها السياسية الجغرافية، من منطلقات ومزاعم توراتية تمحورت حول أرض إسرائيل وإسرائيل الكبرى، ولمتطلبات براجماتية فرضتها موازين القوى الدولية ومتغيرات الصراع في فلسطين وعليها. ومن هنا بدأت إسرائيل منذ عقود في تبني نهج ومفهوم “الحدود الإثنية”.
وتأكيدًا على حضور فكرة “التقسيم” لسوريا في العقل الإسرائيلي، يبدو أن إسرائيل وجدت منذ العام 2011 أن تقسيم سوريا هو الذي يحقق مصالحها وطموحاتها، لا بقاء سوريا موحدة، وتأكيدًا على هذا المعنى كان معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (المقرب من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية) قد نشر دراسة في عام 2015 لجدعون ساعر (وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي) وغابي سيبو، أشارا فيها إلى أن “تداعيات الحرب الأهلية في سوريا، أدت إلى كون سوريا المعروفة منذ عقود ذهبت بلا رجعة، وأن سوريا لا يمكن توحيدها من جديد، وأن فكرة تقسيم سوريا تصب في مصلحة الجميع بما في ذلك كافة اللاعبين الإقليميين في الملف السوري، كما أن ذلك ضمانة لتحجيم نفوذ تنظيم داعش”.
2- تصعيد عسكري إسرائيلي كبير: بدأ الجيش الإسرائيلي منذ ليلة 2 مايو 2025، في تبني أنماط مختلفة من التصعيد العسكري في سوريا؛ حيث أعلن أنه شن غارات جوية على منطقة مجاورة للقصر الرئاسي في دمشق، وبدوره قال رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في اليوم ذاته إن إسرائيل هاجمت هدفًا قرب القصر الرئاسي في العاصمة السورية دمشق، مجددًا تعهده بحماية أبناء الأقلية الدرزية، وفي سياق التصعيد العسكري الإسرائيلي أفاد “تلفزيون سوريا” في الجمعة 2 مايو 2025، بأن طائرة مُسيّرة إسرائيلية قتلت 4 أشخاص في محافظة السويداء، بعد أن حاولوا إسقاطها، وشهدت الليلة نفسها العديد من الغارات الإسرائيلية على عدد من المناطق السورية، أحصتها بعض التقارير بأنها 18 غارة، كان ثمانٍ منها في العاصمة السورية دمشق. ليُعلن الجيش الإسرائيلي بعدها في 3 مايو 2025، أنه “منتشر في الجنوب السوري”، وعلى استعداد لمنع ما وصفها بـ “القوات المعادية” من الدخول أو الانتشار في مناطق الجنوب.
ويُلاحظ في هذه التحركات العسكرية الإسرائيلية مجموعة من الدلالات الرئيسية؛ أولها: أن هذه الغارات كانت مكثفة بالمقارنة بالغارات الإسرائيلية المناظرة على مدى الشهرين الماضيين، وثانيها: أن هذه الغارات كانت تستهدف مضامين سياسية أكثر من كونها تستند إلى أهداف عسكرية وأمنية، وثالثها: أن هذه الهجمات الإسرائيلية جاءت بالتزامن مع اعتزام أهالي جرمانا تنظيم وقفة احتجاجية للتعبير عن التنديد بالهجمات الإسرائيلية الأخيرة على المدينة؛ مما يعكس سعي إسرائيل في الوقت نفسه إلى بث رسائل لردع أي تحركات ولو شعبية للتعبير عن رفض التحركات الإسرائيلية.
3- تصاعد التوظيف الإسرائيلي لملف “الدروز”: حضرت أقلية “الدروز” بشكل كبير في الخطاب الإسرائيلي خلال الأيام الماضية، وتجسد ذلك بشكل فج في عدد من المؤشرات؛ ومنها التظاهرات التي خرجت في إسرائيل للمطالبة بحماية الطائفة الدرزية في سوريا، كذلك عقد الشيخ موفق طريف، الزعيم الروحي للدروز في إسرائيل، سلسلة من الاجتماعات والاتصالات مع المسئولين الإسرائيليين، بما في ذلك اجتماع أمني طارئ مع قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي، طالب فيه بضمان «حقوق وكرامة» الدروز في سوريا، وبالإضافة لذلك أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في رسالة مشتركة مع وزير دفاعه يسرائيل كاتس أن “إسرائيل لن تسمح للقوات (السورية) بالانتشار جنوب دمشق أو بتشكيل أي تهديد للدروز”، معتبرًا أن الهجمات الإسرائيلية الأخيرة “جاءت لحماية الطائفة الدرزية”، وفي جلسة تقييم أمني للوضع في سوريا بمشاركة نتنياهو وكاتس ووزيري الخارجية جدعون ساعر والشئون الاستراتيجية رون ديرمر إلى جانب رئيس جهاز الشاباك رونين بار وكبار قادة الأجهزة الأمنية، قررت إسرائيل إبقاء الجبهة السورية ضمن أولوية أجندتها الأمنية في المنطقة، ونوقشت خطط عدة لمواجهة ما سمتها إسرائيل نشاطات التنظيمات المعادية لها، والتي تهدد وحداتها العسكرية المنتشرة في سوريا ومنطقة الحدود إلى جانب سبل التعامل مع حماية دروز سوريا. وإلى جانب ذلك كان المجلس الوزاري الأمني المصغر في إسرائيل قد قرر فتح الحدود أمام المصابين الدروز للعلاج في المستشفيات الإسرائيلية ونقل في أقل من 24 ساعة 11 درزيًا مصابًا إلى مستشفى “زيف” في صفد لتلقي العلاج. وهي كلها مؤشرات تكشف تصاعد وتيرة التوظيف الإسرائيلي لملف الدروز كأحد الاعتبارات الرئيسية التي تستند إليها تل أبيب في تبرير عملياته وتحركاتها في سوريا.
ثانيًا- طبيعة الحسابات الإسرائيلية
بعيدًا عن السردية والرواية الرسمية الإسرائيلية والتي تحاول خلق مبررات لمسألة التحركات والنهج التصعيدي في سوريا، فإن المؤكد أن التحركات الإسرائيلية الأخيرة عبرت عن تحول الجبهة السورية تدريجيًا إلى إحدى الجبهات الرئيسية بالنسبة لإسرائيل، كما تكشف هذه المعطيات عن أن إسرائيل تحولت مع الوقت منذ الإطاحة ببشار الأسد إلى أحد أهم الفاعلين الخارجيين في الملف السوري، ويبدو أن الحسابات الإسرائيلية في هذا الملف تستند حاليًا إلى مجموعة من الاعتبارات الرئيسية:
1- الحيلولة دون إعادة بناء الدولة السورية: تستند الرؤية الإسرائيلية إلى المتغيرات الأخيرة في سوريا إلى نظرة تقوم على مبدأ “الفرصة” بمعنى أن هذه المتغيرات تمثل فرصة تاريخية بالنسبة لإسرائيل، بقدر ما تفرض من تحديات عليها، ويبدو أن إسرائيل تتبنى مقاربة تقوم على أنه كلما طال أمد الأزمات في سوريا، زاد ذلك من تفكك الدولة، وأضعف سوريا بشكل أكبر، وأضعف قدرتها على الدخول في أي لحظة من اللحظات في مواجهة نظامية مع إسرائيل، أيضًا تسعى إسرائيل إلى خلق حالة من العجز لدى الإدارة السورية الجديدة على مستوى إعادة بناء مؤسسات الدولة، تخديمًا على الهدف نفسه. ويبدو أن إسرائيل تسعى إلى استنساخ نموذج الصومال في سوريا، بمعنى استمرار الحرب بلا نهاية منظورة، وصولًا إلى فوضى كبيرة، واستمرار تموضع سوريا في نطاق “الدول الفاشلة”.
2- “سايكس بيكو” جديد في سوريا: كما سبق الإشارة فإن خطط تقسيم سوريا هي أطروحات إسرائيلية قديمة متجددة، وخلقت الظروف الأخيرة في سوريا والمتغيرات التي أعقبت الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، فرصًا كبيرة بالنسبة لإسرائيل لتحقيق هذا الهدف، ويبدو أن الرؤية الإسرائيلية المطروحة في هذا الصدد تتمثل في دولة سورية مقسمة على أسس عرقية وإثنية، بمعنى تقسيم سوريا إلى أربعة أقاليم رئيسية: إقليم علوي في منطقة الساحل وباتجاه دمشق، وإقليم سني في الشمال وبعض مناطق الجنوب، وإقليم كردي في الشمال الشرقي، وإقليم درزي – إسرائيلي في الجنوب، وهو سيناريو سيضمن لإسرائيل العديد من المكاسب، خصوصًا وأنه يعزز من التموضع الإسرائيلي في سوريا، كما أنه سيخلق أقاليم ضعيفة وليس لديها القدرة على مواجهة إسرائيل أو فرض أي تهديدات ضدها، فضلًا عن أنه سيضمن لإسرائيل بناء علاقات قوية مع بعض الأطراف السورية. على اعتبار أن إسرائيل سوف توظيف ورقة الدعم الاقتصادي لهذه الأطراف، فضلًا عن ورقة الدعم العسكري والاعتراف الدولي.
3- تحييد التهديدات الأمنية من ناحية سوريا: رغم كافة التطمينات التي سعت الإدارة السورية الجديدة إلى بعثها للولايات المتحدة وللمجتمع الدولي، بخصوص “عدم تحويل أراضيها إلى ساحة لتهديد أمن الدول الأخرى”، فضلًا عن الرسائل الإيجابية تجاه إسرائيل تحديدًا في العديد من المناسبات، فإن إسرائيل تعسى إلى تحييد أي تهديدات أمنية قد تأتي من ناحية سوريا، وتتجلى أبرز الهواجس الأمنية بالنسبة لإسرائيل، في مسألة التخوف من إعادة التموضع الإيراني في سوريا، والخلفية الجهادية للإدارة السورية الجديدة، فضلًا عن انتشار العديد من التنظيمات المسلحة والإرهابية على غرار داعش في سوريا، ومن هنا استهدفت التحركات الإسرائيلية بشكل رئيسي ضمان أمن حدودها الشمالية، عبر إنشاء منطقة عازلة خالية من أي تهديد عسكري، ويبدو أن إسرائيلي تسعى إلى تجنب سيناريو تكرار تجربة حزب الله اللبناني في ناحية الجولان، بمعنى أن إسرائيل تريد منطقة جنوبية في سوريا معزولة السلاح تمامًا، فلا صواريخ أو مدفعية أو تشكيلات عسكرية ثقيلة بالقرب من حدودها.
4- التنافس على النفوذ مع تركيا: منذ الإطاحة بنظام الرئيس السابق بشار الأسد، لم يُخف المسئولين في تل أبيب تخوفاتهم بخصوص “تحول سوريا من مظلة النفوذ الإيراني إلى النفوذ التركي، وأن الفراغ الذي خلقه الانسحاب الإيراني من سوريا، سوف تعوضه تركيا”، ومن هنا جاء الاستهداف الإسرائيلي لعدد من القواعد التي قيل إن الإدارة السورية الجديدة تسعى إلى إسناد إدارتها إلى تركيا، ورغم المباحثات التي جرت بين الجانبين التركي والإسرائيلي في أذربيجان، بخصوص خلق آليات لتجنب الاشتباك والصدام في سوريا، فإن الهواجس الإسرائيلية تجاه النفوذ التركي تظل مستمرة، وذلك على وقع مجموعة من الاعتبارات؛ أولها: أن إسرائيل تنظر إلى سوريا وما تحظى به من أهمية استراتيجية وجيوسياسية، باعتبارها فرصة لتغيير قواعد اللعبة والنفوذ في المحيط الإقليمي ككل، وفي دول الطوق على وجه الخصوص، وثانيها: الفرضيات الإسرائيلية بأن إسهام تركيا في إعادة التأهيل لسوريا خصوصًا المؤسسات الأمنية والعسكرية، مع الخلفية الجهادية للإدارة الجديدة في سوريا، قد يشكل تهديدًا على المدى الاستراتيجي بالنسبة للأمن القومي الإسرائيلي، وثالثها: أنه في ظل التوتر الراهن وربما المستقبلي في العلاقات التركية الإسرائيلية قد تلجأ تركيا إلى أسلوب الحرب بالوكالة مع إسرائيل، بمعنى تحفيز بعض المجموعات السورية بخصوص شن هجمات ضد الدولة العبرية. ورابعها: يستند إلى طبيعة المقاربة الخاصة بكل من تل أبيب وأنقرة تجاه سوريا، ففي الوقت الذي تنظر فيه تل أبيب لسوريا على أنها تهديد لها أصبحت فيه أنقرة خصوصًا في أعقاب الاتفاق الأخير بين الإدارة السورية الحالية بقيادة أحمد الشرع، وبين قوات سوريا الديمقراطية بقيادة مظلوم عبدي، تميل للإبقاء على سوريا كإقليم موحد يسيطر عليه نظام حكم تربطه علاقات قوية مع أنقرة، فإن هذا الأمر يتنافى وطبيعة التحركات الإسرائيلية التي تعمل من جانب على توسيع نطاق النفوذ والسيطرة في الجنوب السوري، ومن جانب آخر على تحفيز بعض النزعات الانفصالية في سوريا، وبالتالي يشكل هذا العامل محفزًا صراعيًا بين الجانبين على مستوى النفوذ الجيوسياسي.
ختامًا، يمكن القول إن كافة التحركات الإسرائيلية الأخيرة في سوريا، والتي جمعت بين الأبعاد السياسية والعسكرية تؤكد على فكرة سعي إسرائيل للتحول إلى الفاعل الأهم في الملف السوري توظيفًا للمتغيرات التي أعقبت الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد، فضلًا عن كونها تعبر عن طبيعة المقاربة الإسرائيلية تجاه سوريا، والتي تستهدف بشكل رئيسي تحقيق فكرة “التقسيم”، مستغلةً في ذلك النزعات العرقية والإثنية المتنامية في سوريا على وقع الإشكالات التي تواجه مسألة العدالة الانتقالية في ظل السلطة الجديدة في دمشق، فضلًا عن حالة الهشاشة الأمنية والمؤسساتية في سوريا وغياب مفهوم الدولة الوطنية.