عاجل

بعد إغلاق مكاتب البوليساريو.. هل تتأثر العلاقات بين الجزائر وسوريا؟

الرئيس السوري أحمد
الرئيس السوري أحمد الشرع

في ظل التحولات الجيوسياسية المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أتى إعلان السلطات السورية عن نيتها فتح سفارة رسمية لها في العاصمة المغربية الرباط، وإغلاق مكتب تمثيل جبهة البوليساريو فوق أرض سوريا، بمثابة صدمة للجزائر، التي كانت لعقود تُعد من أبرز حلفاء النظام السوري.

ووفقًا للدراسة التي أعدها مركز رع للدراسات الاستراتيجية، هذا التحول المفاجئ لا يمكن قراءته فقط من زاوية العلاقات السياسية الثنائية، بل لا بد من فهمه ضمن سياق أوسع يشمل حسابات المصالح الاقتصادية، والتحولات في موازين القوى الإقليمية، وتغير أولويات دمشق في مرحلة ما بعد الحرب. فالزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الجزائري، أحمد عطاف، إلى دمشق في فبراير الماضي، التي تم رؤيتها على إنها “دبلوماسية إنقاذ لمكتسبات الماضي”، فشلت في تحقيق أهدافها السياسية والاستراتيجية، وعلى رأسها الحفاظ على الاعتراف السوري بجبهة البوليساريو، وضمان تنسيق المواقف إزاء الملفات الإقليمية، وفي مقدمتها النزاع المغربي-الجزائري على الصحراء الغربية.

ورغم أن الجزائر، عرضت وفقًا للمراقبين حزمة مغرية من الاستثمارات والمساعدات في مجالات الطاقة والبنية التحتية لإنعاش الاقتصاد السوري مقابل ضمانات سياسية تخص جبهة البوليساريو،- إلا أن هذه العروض قوبلت ببرود واضح من دمشق، التي باتت تدرك أن رهاناتها المستقبلية تكمن في فتح قنوات جديدة مع القوى الصاعدة اقتصاديًا، مثل المغرب، التي تقدم نموذجًا للاستقرار والاستثمار وتملك علاقات دولية واسعة، خصوصًا مع أوروبا والخليج.

ما حدث إذن ليس مجرد “نقل ولاء سياسي”، بل يعكس إعادة تموضع اقتصادي سوري حيوي، يتجاوز الجزائر التي تعاني من عجز تنموي وتضخم داخلي، نحو شراكة مع المغرب الذي يقدم بيئة استثمارية واعدة واستقرارًا سياسيًا نسبيًا، ما قد يفتح الباب أمام تمويلات خليجية وأوروبية تمر عبر الرباط لإعادة إعمار سوريا.

تأسيسا على ما سبق، يحاول هذا التحليل قراءة سيناريوهات العلاقات الاقتصادية بين الجزائر وسوريا بعد إعلان الأخيرة عن فتح سفارة في الرباط وإغلاق مكتب جبهة البوليساريو؟

علاقات البلدين الاقتصادية قبل الإعلان السوري:

رغم الطابع السياسي القوي الذي يربط العلاقات بين سوريا والجزائر، إلا أن الجانب الاقتصادي من هذه العلاقة ظل محدودًا من حيث الحجم، لكنه رمزي للغاية من حيث الدلالة. فمنذ اندلاع الأزمة السورية في عام 2011، كانت الجزائر واحدة من الدول العربية القليلة التي امتنعت عن قطع علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق.

قراءة الشكل السابق، تشير إلى أنه في عام 2014، كان حجم تبادل منخفض بين البلدين، إذ بلغت واردات سوريا من الجزائر نحو 26 مليون دولار مقابل صادرات بقيمة 6 ملايين دولار فقط. ورغم حدوث تحسن في أداء الصادرات السورية تدريجيًا في العام التالي لتصل إلى 11 مليون دولار، وتراجع الواردات إلى 18 مليون دولار، مما قلّص الفجوة التجارية، إلا أن عام 2016 شهد مجددًا ارتفاع الواردات إلى 24 مليون دولار، بينما بقيت الصادرات عند 13 مليون دولار، ما أعاد العجز التجاري لصالح الجزائر. كذلك شهد عام 2017 تراجعًا لافتًا في كلا الجانبين، إذ انخفضت الواردات إلى 12 مليون دولار، وتراجعت الصادرات إلى 6 ملايين فقط. وشكل عام 2018 نقطة تحول، إذ قفزت واردات سوريا من الجزائر إلى 69 مليون دولار، وهو أعلى مستوى في الفترة كلها، بينما لم تتعدَّ الصادرات السورية 7 ملايين دولار. يعكس هذا التفاوت الكبير في الأرقام سابقة الذكر، اعتمادًا متزايدًا من الجانب السوري على المنتجات الجزائرية، دون أن يقابله نمو مماثل في الصادرات. وفي عام 2019، استمرت الواردات عند مستوى مرتفع (62 مليون دولار)، إلا أنها بدأت بالتراجع الواضح في 2020 لتصل إلى 33 مليون دولار. أما الصادرات فقد ظلت محدودة، إذ لم تتجاوز 9 ملايين دولار. ومن المرجح أن تأثيرات جائحة كوفيد-19 لعبت دورًا في تقليص حجم التبادل. ورغم التراجع في العام السابق، عادت واردات سوريا من الجزائر للارتفاع بقوة في عام 2021، لتسجل 71 مليون دولار، كأعلى مستوى على الإطلاق. مع ذلك، لم تتغير قيمة الصادرات السورية كثيرًا، إذ بلغت 9 ملايين دولار، ما يدل على عدم التوازن المستمر في العلاقات التجارية.

الملاحظ أن الواردات انخفضت بشكل كبير في عام 2022 إلى 23 مليون دولار، ثم انهارت في عام 2023 إلى 5 ملايين دولار فقط، وهو أدنى مستوى خلال العقد. في المقابل، سجلت الصادرات السورية ارتفاعًا طفيفًا في 2023 إلى 10 ملايين دولار، متجاوزة الواردات للمرة الأولى، ما يعكس تغيرًا استثنائيًا في طبيعة التبادل، ربما يعود لأسباب ظرفية.

وفقا للمراقبين، تتنوع الصادرات السورية إلى الجزائر لتشمل منتجات زراعية وعطرية وألبسة جاهزة. ومن أبرز السلع التي تصدرها سوريا، هي بذور الكزبرة والكمون واليانسون والكراوية والشمر، وجميعها تُصدّر بحالتها الطبيعية غير المجروشة أو المطحونة. كما تشمل الصادرات أيضًا بعض المنتجات النسيجية مثل التنانير المخصصة للنساء، والمصنوعة من ألياف صناعية أو تركيبية. في المقابل، تعتمد الصادرات الجزائرية إلى السوق السورية على عدد من المواد الأساسية والمصنعة، من أبرزها: السكر الأبيض، والمناديل والفوط الورقية، إضافة إلى بعض الغازات النادرة باستثناء الأرجون.

تجدر الإشارة هنا إلى أنه جانب المبادلات التجارية، لعبت الجزائر دورًا مهمًا في كسر العزلة الاقتصادية على سوريا عبر تقديم دعم معنوي، والمشاركة في معارض اقتصادية في دمشق مثل معرض دمشق الدولي (2019). كما أن الجزائر كانت من الدول العربية القليلة التي طالبت برفع العقوبات الاقتصادية الغربية المفروضة على سوريا، في زيارة وزير الدولة الجزائرية أحمد عطاف في فبراير الماضي.

دلالات القرار السوري من منظور اقتصادي:

رغم أن قرار سوريا بفتح سفارة في الرباط في مايو 2025 يحمل دلالات سياسية واضحة تتعلق بملف الصحراء الغربية، فإن قراءته من الزاوية الاقتصادية تكشف عن رسائل استراتيجية موجهة إلى شركاء محتملين في الإقليم وخارجه. فباعتبار أن سوريا تمر بمرحلة ما بعد الحرب وتسعى إلى إعادة الإعمار وسط حصار اقتصادي خانق، فإن تحولها نحو المغرب ليس فقط إعادة تموضع سياسي بل أيضًا محاولة للحصول على فرص اقتصادية جديدة. ويمكن توضح ذلك على النحو التالي:

(*) المغرب بوابة استثمارية للأسواق الخليجية والغربية: يتمتع المغرب بعلاقات وثيقة ومتقدمة مع الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، وعدد من الدول الخليجية مثل الإمارات والسعودية، وهو ما يجعل منه منصة مثالية لسوريا لجذب استثمارات غير مباشرة عبر العلاقات المغربية مع هذه الدول. وهنا تجدر الإشارة إلى عدد من الملاحظات هي:

(-) منذ توقيع المغرب اتفاقات تطبيع مع إسرائيل في 2020، شهدت البلاد طفرة في الاستثمارات الأجنبية المباشرة، “مع استفادة المغرب على المستوى العسكري بالخبرات الإسرائيلية في تطوير منظومات دفاعية متقدمة، خاصة في مجال التكنولوجيا العسكرية المرتبطة بالأنظمة المضادة للطائرات المسيرة، مما أتاح له تعزيز جاهزيته الدفاعية في منطقة تعرف تصاعدا للتهديدات الجيوسياسية، حيث إن هذا التعاون لم يكن مجرد استيراد للتكنولوجيا، بل تمثل في صياغة شراكة عسكرية تضع المغرب في موقع أكثر تقدما ضمن معادلات القوة الإقليمية” علي حد تعبير فيصل مرجاني، رئيس جمعية مغرب التعايش.

(-) إذا نجحت سوريا في تحسين علاقاتها مع المغرب، فقد تفتح بذلك قنوات جديدة للحصول على تمويلات أو شراكات اقتصادية من الأسواق الخليجية، حيث وضحت وحدة أبحاث “الإيكونيميست” البريطانية، أن المغرب من بين الدول المستقبلة للاستثمارات الأجنبية الخليجية، خصوصا في المجالات المتعلقة بالطاقات المتجددة، وارجع ذلك إلى جهود المغرب المضية في تحسين البنية التحتية الطرقية والجوية والمينائية الخاصة بها.

(*) توقيت القرار.. رسالة واضحة في سياق إعادة الإعمار: وفقًا لتقرير مشترك صادر عن الإسكوا والأونكتاد بعنوان “سوريا عند مفترق طرق: نحو مرحلة انتقالية مستقرة”، فقد خسر الاقتصاد السوري 64% من ناتجه المحلي الإجمالي منذ 2011، بالإضافة إلى خسارة الليرة السورية ثلثي قيمتها في عام 2023 فقط، ونصف السكان تقريبًا يعيشون في فقر مدقع، مع احتياج نحو 16.7 مليون سوري إلى مساعدات إنسانية. وقدر التقرير أن سوريا بحاجة إلى أكثر من 250 مليار دولار لإعادة الإعمار، وهو مبلغ يستحيل تأمينه من شركائها التقليديين مثل روسيا أو إيران فقط، في ظل ما تعانيه الأخيرة من عقوبات وضغوط مالية. (UNESCWA, 2024). ولذلك تبحث دمشق عن فتح آفاق اقتصادية جديدة، حتى وإن كانت تتطلب تنازلات سياسية أو مراجعة مواقف خارجية سابقة ويبدو أن القرار السوري بفتح سفارة في المغرب يغلب عليه الطابع البراغماتي.

(*) إغلاق مكتب البوليساريو.. إشارة ضمنية لتغيير الاصطفاف الاقتصادي: من خلال غلق مكتب البوليساريو، وجهت سوريا إشارة واضحة بانسحابها من محور الجزائر – جنوب إفريقيا – إيران في دعم الحركات الانفصالية، وهو ما قد يُفهم اقتصاديًا على أنه إعادة توجيه تحالفاتها نحو محاور أكثر إنتاجًا ماليًا واستثماريًا. هذا الانسحاب الرمزي قد يهدف إلى طمأنة المستثمرين الخليجيين بأن سوريا لم تعد شريكًا في مشاريع سياسية مناوئة لحلفائهم الإقليميين.

سيناريوهات محتملة:

أثار إعلان سوريا فتح سفارة في الرباط وإغلاق مكتب جبهة البوليساريو جدلًا واسعًا بشأن تداعياته على علاقاتها التقليدية مع الجزائر. ومع أن البعد السياسي للقرار واضح، فإن آثاره الاقتصادية لا تقل أهمية، خاصة في ظل التشابك العميق بين الاقتصاد والسياسة في المنطقة المغاربية. في هذا السياق، يمكن رسم ثلاثة سيناريوهات رئيسية محتملة للعلاقات الاقتصادية السورية الجزائرية، يتفاوت فيها مستوى التوتر والانفتاح بحسب مدى تطور العلاقة السورية المغربية، هي كالتالي:

(&) السيناريو الأول،-  فتور اقتصادي تدريجي وتراجع مستوى التعاون: إذا فسرت الجزائر الخطوة السورية على أنها خروج عن موقف التضامن التاريخي حيال قضية الصحراء الغربية، فقد تتجه نحو خفض تدريجي للتعاون الاقتصادي مع دمشق، لا سيما في ظل اعتقاد الجزائر أن سوريا تحاول الانخراط في محور إقليمي تقوده قوى تعتبره خصمًا سياسيًا واقتصاديًا. تظهر أبرز ملامح هذا السيناريو في تقليل حركة التبادل التجاري بين البلدين، التي كانت مدفوعة في السابق بدوافع تضامنية أكثر منها اقتصادية.

(&) السيناريو الثاني،- الحفاظ على مستوى تعاون اقتصادي محدود تحت مظلة البراغماتية: في المقابل، من المرجح أن تتبنى الجزائر موقفًا أكثر براغماتية، بحيث تميز بين الخلاف السياسي والضرورات الاقتصادية، لا سيما أن الجزائر نفسها تمر بمرحلة انتقال اقتصادي مع تراجع إيرادات الطاقة وسعيها لتنويع مصادر دخلها. بهذا المعنى، قد تحتفظ الجزائر بتعاون اقتصادي محدود مع سوريا، دون أن تطور هذه العلاقة إلى شراكة استراتيجية كما كان يؤمل في السابق. وتتمثل ملامح هذا السيناريو في استمرار المبادلات التقنية والتجارية المحدودة بين البلدين، وحدوث تنسيق مقيد في المحافل الاقتصادية الدولية (كالقمم العربية الاقتصادية)، دون مبادرات ثنائية جديدة، كذلك حدوث استقرار في مستوى العلاقات الاقتصادية الرسمية مع احتفاظ الجزائر بهامش للمناورة الدبلوماسية.

(&) السيناريو الثالث،- تصعيد اقتصادي شامل وإعادة توجيه المحاور الاستثمارية: إذا عمّقت سوريا علاقتها مع المغرب بشكل واضح، خصوصًا إذا اقترنت بتعاون اقتصادي علني أو دعم لمواقف مغربية في ملفات إقليمية، فقد تعتبر الجزائر ذلك تهديدًا مباشرًا لاستراتيجيتها الجيواقتصادية في شمال إفريقيا. في هذه الحالة، قد تلجأ الجزائر إلى سياسات ردعية اقتصادية تشمل، إلغاء الاتفاق التجاري بين سوريا والجزائ، وتوجيه استثماراتها الخارجية نحو دول تعتبرها أكثر توافقًا سياسيًا.

في النهاية، يمكن القول إن إعلان سوريا، عن فتح سفارة في الرباط وإغلاق مكتب جبهة البوليساريو، سيكون له انعكاسات أكثرا وضوحًا على المستوى الاقتصادي بالمقارنة بالسياسي، خاصة وأن سوريا قد تحاول الاستفادة من العلاقات الخليجية المغربية الراهنة، كذلك قد تأخذ الجزائر ردود فعل اقتصادية سريعة، خاصة وأنها تصنف علاقاتها مع الأطراف العربية والغربية خلال الفترة الأخيرة وفقًا للموقف من قضية الصحراء.

تم نسخ الرابط