الأبعاد الاقتصادية والأمنية والسياسية لرفع العقوبات الأمريكية عن سوريا

خلال زيارته للسعودية وأمام منتدى الاستثمار السعودى-الأمريكى الذى عُقد فى الرياض يوم 13 مايو 2025، أعلن الرئيس الأمريكى دونالد ترامب عن قراره برفع العقوبات الأمريكية التى كانت مفروضة على سوريا بصورة كاملة. القرار جاء بعد مشاورات سابقة قال عنها ترامب أنه أجراها مع كل من الرئيس التركى رجب أردوغان، وولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان، وقادة آخرين. واختار ترامب كشف النقاب عن قراره خلال زيارته للسعودية ضمن جولة خليجية زار خلالها أيضاً قطر والإمارات، وخلال فعاليات اجتماعه مع ولى العهد السعودى فى الرياض وبحضور الرئيس السورى الانتقالى أحمد الشرع.
وفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، القرار كان قد مهدت له عدة مباحثات أمريكية-سورية على مستوى دبلوماسى خلال الشهرين الماضيين، وتضمنت طرح واشنطن عدداً من الشروط أمام الإدارة الانتقالية فى سوريا، وأوضحت أنها ستدرس السلوك السورى بشأن التعاطى معها فى سياق إعادة بناء الثقة بين الجانبين، ما فُسر بأن ترامب لا يستعجل عملية الرفع الكامل للعقوبات، وأنه بصدد قياس مدى الاستجابة السورية لتلك الشروط وعلى إثرها ستقيم واشنطن سبل التعامل مع الحكم الانتقالى الجديد فى سوريا.
المفاجأة كانت فى سرعة اتخاذ الرئيس الأمريكى قراره بشأن رفع العقوبات خلال الاجتماع المشار إليه آنفاً. البعض أرجع السبب إلى إلحاح الرئيس أردوغان وطلب ولى العهد السعودى على اعتبار أن رفع العقوبات من شأنه إنهاء عزلة سوريا دولياً وإقليمياً، ويدعم عودتها إلى النظام المالى العالمى، ويسهل فرص دعم الاقتصاد وإعادة الإعمار، ومن ثم تحقيق الاستقرار الاقتصادى، وما يترتب عليه من فرص لتحقيق الاستقرار الأمنى، إلى جانب ضمان الأمن الإقليمى لدول الجوار سواء تركيا أو العراق أو الأردن، بما فى ذلك معالجة العلاقة المتوترة مع إسرائيل.
وقد انعكس القرار فى تصريحات "بالغة التفاؤل" صدرت عن وزير الخارجية السورى أسعد الشيبانى؛ حيث وصف الرئيس الأمريكى بأنه "قادر على تحقيق انتصار حقيقى للمصالح الأمريكية فى سوريا". فى هذا السياق، تبدو عملية رفع العقوبات الأمريكية وكأنها تدشن مساراً سياسياً دولياً جديداً تجاه المرحلة الانتقالية فى سوريا يسهم فى خروجها من المشروع الإقليمى الإيرانى بأبعاده السياسية والأمنية والاقتصادية، ويساعد فى الوقت نفسه فى إحداث تغيير بشأن خريطة التفاعلات الدولية والإقليمية الخاصة بسوريا الجديدة.
نتائج متعددة
عبّر ترامب عن رفع العقوبات عن سوريا، فى ظل الإدارة الانتقالية، بأنها خطوة لمنحها "بداية جديدة" توفر لها "فرصة للازدهار"، فى إشارة إلى مساعدة واشنطن فى تهيئة البيئة الداخلية فى سوريا الجديدة لبدء مسار للتعافى من العقوبات يكون له مردوده الاقتصادى الداخلى، لاسيما فى مجال الطاقة (النفط والغاز)، هذا فضلاً عن كونه سيدعم حركة التجارة السورية مع الخارج، ويدفع كذلك إلى تشجيع الاستثمارات العربية والأجنبية بشأن مشاريع إعادة الإعمار. ويحمل قرار رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا عدة نتائج يمكن الإشارة إليها فى النقاط التالية:
1- عوائد اقتصادية محتملة
- عودة النشاط إلى قطاعات الاقتصاد السورى المختلفة، لاسيما الطاقة والتجارة والبنوك والمصارف، مع توقع حالة من الانفتاح الاقتصادى من جانب المستثمرين العرب والأجانب للمشاركة فى مشروعات التعافى وإعادة الإعمار طويلة المدى، بما قد يعزز من قدرة سوريا على الخروج من الأزمة الاقتصادية الحادة نتيجة الصراع الداخلى الذى دام 13 عاماً.
- العمل على إعادة تأهيل البنية التحتية فى كافة قطاعات الخدمات التى خربها الصراع الداخلى من خلال فتح المجال أمام الشركات العربية والأجنبية للاستثمار فى مجالات البنية التحتية المختلفة: الكهرباء والطاقة، شبكات المياه والصرف، الاتصالات، شبكات الطرق والمواصلات، قطاع الرعاية الصحية والمستشفيات، هذا بخلاف قطاعات التصنيع والزراعة.
- فرصة لوجود عائد اقتصادى يُمكِّن الحكومة من تحقيق الاستقرار الداخلى ومواجهة التحديات الإنسانية؛ حيث يتطلع أفراد المجتمع السورى، على اختلاف طوائفهم وانتماءاتهم، إلى وجود رواج مالى واستثمارى من مشروعات ووظائف وخدمات يكون لها مردودها الإيجابى على المجتمع وطوائفه المختلفة، بما ينعكس بدوره على حالة الاستقرار والسلم المجتمعى.
- فتح المعابر السورية مع دول الجوار العربية أمام حركة التجارة والانتقال، وهذا يساهم فى حركة تجارة كبيرة، ونشاط اقتصادى واسع، لكن يظل هناك قيد يتعلق بمتطلبات "ضبط الأمن"، أو ما يمكن تسميته بتأثيرات أمن الحدود وهذا سيتطلب من الحكومة السورية الانتقالية الكثير من الإجراءات الأمنية.
- مدخل تمهيدي يفتح المجال أمام الدول الأوروبية لتحذو الحذو نفسه؛ خاصة بعد اقتراب موعد تجديد قرار الإعفاء الجزئى (يونيو المقبل) للعقوبات لاسيما المتعلقة بدخول المساعدات الإنسانية.
2- مردود أمنى
- التسريع من إنجاز المرحلة الانتقالية، وذلك عبر إعادة تأهيل المؤسسات الوطنية، وبناء الجيش، وتشكيل أكثر اتزاناً للمؤسسة الأمنية التى تتولى حفظ الأمن الداخلى.
- المضى قدماً فى تنفيذ اتفاق مارس ٢٠٢٥، بين الحكومة السورية الانتقالية وبين قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، خاصة إذا تلا قرار رفع العقوبات الأمريكية قرار محتمل بانسحاب أمريكى من شمال شرق سوريا بما يعنيه من تخلى الولايات المتحدة عن الحليف المحلى لها فى سوريا، وهى قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، التى ستكون أمام اختبار وجودى صعب يفرض عليها الاختيار بين ثلاثة بدائل: إما مواجهة تركيا عسكرياً، وإما مواجهة النظام السورى الجديد فى حالة عدم استكمال اجراءات تنفيذ الاتفاق معه والموقع فى مارس 2025، وإما القبول بتنفيذ الاتفاق والخضوع للإدارة الانتقالية الجديدة، ومن ثم القبول بتفكيك "قسد" والانضمام كفصائل وليس كتنظيم للمؤسسة العسكرية الجديدة.
3- انعكاسات سياسية محتملة
- تسهيل عملية إعادة دمج سوريا فى المنظمات الدولية والمجتمع الدولى، وما يترتب عليه من استفادة النظام السورى الانتقالى الجديد من الفرص التى توفرها تلك المنظمات للدول الأعضاء فيها.
- فرصة لمجالات تعاون أوسع نطاقاً مع تركيا فى مجال التدريب والتسليح؛ حيث شكلت العقوبات الأمريكية بدرجة ما عائقاً أمام رفع مستوى التعاون الأمنى التركى-السورى، بالرغم من توقيع اتفاقات فى هذا الشأن خلال يناير 2025، ومن شأن رفع العقوبات التسريع باستكمال هذا التعاون بوتيرة أعلى مما كان عليه الوضع، وهو ما سينعكس على مستوى جهوزية وإعداد قطاع الأمن السورى الداخلى، وعلى مستوى المؤسسة العسكرية كذلك.
- احتمالية أن تتبع الولايات المتحدة قرار رفع العقوبات بقرار آخر يتمثل فى الانسحاب العسكرى من شمال شرق سوريا، والاكتفاء بدور لوجيستى واستخباراتى ضمن التحالف الدولى فى قاعدة التنف بالقرب من مثلث الحدود السورى العراقى الأردنى. وإن كان هذا الاحتمال مرهون بثلاثة إشكاليات: الأولى، تقييم واشنطن لمدى التزام الإدارة السورية الجديدة بضمان حقوق الأقليات لاسيما (الأكراد، والدروز، والعلويين) وتحقيق الأمن الداخلى وضمن السلم المجتمعى. والثانية، استمرار الحكومة الانتقالية فى تقديم دعم أمنى واضح للجهود الدولية لمحاربة تنظيم الدولة "داعش". والثالثة، تبديد مخاوف إسرائيل بشأن توجهات النظام السورى الجديد، وما يرتبط بهذا من احتمالية عقد اتفاق للسلام بين دمشق وتل أبيب، أو حتى البدء فى مسار شامل للتطبيع والدخول ضمن الاتفاقات الإبراهيمية. وقد تلجأ الإدارة السورية الجديدة فى هذا السياق إلى طلب يضمن قيام الولايات المتحدة بالوساطة بينها وبين إسرائيل من أجل حل إشكالية الاحتلال الإسرائيلى للجنوب السورى حالياً، أو إلى تسوية سلمية للوضع الأمنى جنوب سوريا.
- تقليص النفوذ الروسى فى سوريا، مما يصعب من عملية التفاوض بشأن استمرار القواعد الروسية فيها من ناحية، أو يفتح المجال أمام الولايات المتحدة لوضع شروط محددة فى هذا الشأن بحيث تقلص من طبيعة الدور الروسى فى ظل المتغيرات السورية الجديدة من ناحية ثانية.
- تقليص دور الصين على مستوى التعاون الاقتصادى مع النظام السورى الجديد؛ بما يعنى وضع قيود على دور ممكن للشركات الصينية فى مجال إعادة الإعمار من ناحية، لاسيما فى السياق الأوسع المتعلق بالحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة.
الآلية والضوابط
بالرغم من أن قرار ترامب يضمن الرفع الشامل للعقوبات الأمريكية عن سوريا، إلا أن آلية التطبيق قد تستغرق وقتاً، فضلاً عن أن سلطة فرض تلك العقوبات لم تكن مصدرها واحداً؛ حيث اشتركت السلطتان التنفيذية والتشريعية (الرئاسة، والكونجرس) فى فرض هذه العقوبات، ومن ثم فإن رفعها يتطلب عدة إجراءات إدارية وفنية وتقنية، غير أن مسار الإعفاء منها سيرتبط بمدى الإنجاز الذى ستحققه الإدارة السورية بشأن معالجة الأوضاع السياسية الداخلية لاسيما حقوق الأقليات، ومحاربة الإرهاب، وحصر السلاح، ووقف عملية القتل على أسس طائفية، ومعالجة الانفلات الأمنى، والتخلص من المقاتلين الأجانب، وإنهاء وجود عناصر تابعة للمقاومة الفلسطينية على الأراضى السورية، وبدء مسار للتطبيع مع إسرائيل ...الخ.
وهنا، فإن ذلك يجعل من عملية رفع العقوبات بحكم الواقع عملية "تدريجية"، هذا بخلاف أن إجراءات الرفع تشمل تراخيص وإعفاءات بموجب "قانون قيصر لحماية المدنيين" عبر تراخيص تصدرها وزارة الخزانة الأمريكية تشمل قطاعات اقتصادية مهمة فى عملية إعادة الإعمار، وأنها ستعتمد المراجعة كل 180 يوماً (أى كل 6 أشهر)، ومن ثم فإن الرفع الشامل كما هو متوقع سيكون رهناً بمدى تحقيق تقدم فعلى فى سلوك النظام السورى الجديد مع الشروط الأمريكية المذكورة آنفاً.
مما سبق يمكن القول إن مرحلة جديدة فى سوريا قد بدأت بإعلان الرئيس الأمريكى دونالد ترامب رفع العقوبات الأمريكية عن الإدارة الانتقالية الجديدة، كونه ضرورة لدعم قدرة سوريا على إعادة الإعمار، ومحاربة الإرهاب، وتحقيق الاستقرار الأمنى. لكن فى الوقت نفسه فإن ثمة "أثماناً" يجب أن تدفعها سوريا الجديدة يتمثل أبرزها فى تحويل نمط العلاقة بينها وبين دولة الكيان الإسرائيلى إلى "علاقة سلام" لم تتضح معالمها بعد، فضلاً عن أن آلية المراجعة الأمريكية لمسار رفع تلك العقوبات تفترض الامتثال لشروط الإدارة الأمريكية بالكيفية السابق توضيحها. وبهذا التقارب الأمريكى مع الإدارة الانتقالية فى سوريا، تكون الأخيرة قد أنهت عقوداً من التواجد ضمن محور إيران الإقليمى فعلياً وواقعياً، وبدأت مساراً جديداً فى صياغة سياستها الخارجية عنوانها الرئيسى هو الابتعاد عن إيران والتقارب مع الولايات المتحدة وتركيا، مع إبقاء العلاقة مع روسيا وقواعدها العسكرية فى سوريا ضمن معادلة "مراجعة الحسابات الدولية الجديدة" وفى ضوء علاقة الطرفين بالمتغير الأمريكى مستقبلاً.