عاجل

كيف تأثرت منطقة البحر الأسود بالحرب الروسية الأوكرانية؟

منطقة البحر الأسود
منطقة البحر الأسود

انعكست ارتدادات المواجهة العسكرية بين روسيا وأكرانيا على عدّة فضاءات جيواستراتيجية ما لبثت أن تحولت إلى جبهات مُوازية لخطوط القتال بين الجانبين على رأسها منطقة البحر الأسود ذات الأهمية الحيوية لمسارات نقل إمدادات الطاقة والتجارة لا سيما صادرات الحبوب العالمية، بالإضافة إلى ما تحتويه من احتياطيات للطاقة وتحديدًا الغاز، فضلًا عن ارتباطها الجغرافي بمنطقة شرق المتوسط؛ مما جعلها جزءًا من معادلة التنافس البحري سواء كان على المستوى الإقليمي أو الدولي. هذا بجانب ما تشهده المنطقة من عسكرة متزايدة كشفت عنها الديناميكيات البراجماتية للقوى الرئيسية الضامنة لأمن البحر الأسود منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية.

ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أن ذلك في ضوء عدّة محددات كشفت عنها تحركات هذه القوى وفي مقدمتها روسيا التي تنظر إلى منطقة البحر الأسود باعتبارها مجالًا حيويًا مرتبطًا بمكانتها كـ “قوة عظمى بحرية”، وخاصة بعد ضمها شبه جزيرة القرم، وتمركز قواتها في منطقة ترانسنيستريا الانفصالية بمولدوفا، بجانب أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا بعد انفصالهما عن جورجيا واعتراف روسيا بهما. فيما تتعامل تركيا مع المنطقة باعتبارها أحد أهم الفاعلين الرئيسين لضمان أمن البحر الأسود، ويري حلف شمال الأطلسي “الناتو” المنطقة ذات أهمية استراتيجية له.

وهناك أوكرانيا المطلة على هذا البحر والمحتاجة إليه، وفي بدايات الحرب فرض الأسطول الروسي حصارًا بحريًا عليها وهي تعاملت معه باستهداف هذا الأسطول وإلحاق خسائر كبيرة به وإجباره على التراجع، وهناك بلغاريا ورومانيا؛ وهما من أعضاء حلف الناتو، كل منهما سعت إلى تعزيز قدراتها الدفاعية واشتركت في جهود الحلف في دعم أوكرانيا وكان هذا الانخراط سببًا من أسباب الاحتقان الداخلي في كل منهما. في هذا السياق، لم تقتصر التفاعلات في المنطقة على التعامل مع الحرب فحسب، بل شهدت المزيد من علاقات الشراكة والتعاون بين بعض القوى الأوروبية وتحديدًا في مجالي الطاقة والتجارة تحت مظلة مبادرة البحار الثلاثة (SI3) التي تشكلت في عام 2015، وتضم نحو 13 دولة مطلة على البحر الأسود والبحر الأدرياتيكي، وبحر البلطيق. 

وعليه، يحاول التقرير تفكيك نمط التفاعلات الراهنة في منطقة البحر الأسود في سياق الاستجابة للحرب الروسية-الأوكرانية، وتوضيح تداعياتها التي أسهمت في إحداث العديد من التحولات النوعية سواء كانت على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الأمني؛ مما أدى إلى إعادة تشكيل علاقات المصالح في المنطقة، تمثلت أبرز مظاهرها على النحو التالي: 

أولًا- استنزاف وتحييد الخصوم: بعد بداية الحرب وفرض الحصار عليها عملت أوكرانيا التي تمتلك نحو 1300 كيلو متر من ساحل البحر الأسود على توسيع نطاق استهدافها للقوات البحربة الروسية المتمركزة في البحر الأسود رغم عدم امتلاكها لقدرات بحرية مُكافئة لروسيا؛ مما وضع أسطول البحر الأسود أمام حرب استنزاف قائمة على شن هجمات متتالية بواسطة المسيرات البحرية الأوكرانية التي تم تطويرها وتحديثها إلى جانب الصواريخ المضادة للسفن لتدمير أكبر قدر من القطع البحرية الروسية. فخلال الفترة من فبراير 2022 وحتى يونيو 2024 –على سبيل المثال- تعرضت القوات البحرية الروسية في البحر الأسود وبحر آزوف وأعالي البحار إلى ما يقرب من 42 هجومًا، وحصاد الهجمات “تدمير نحو 22 قاربًا وسفينة، بجانب تضرر حوالي 20 سفينة وقاربًا، بما في ذلك تلك التي لا يمكن إصلاحها”. 

وخلال تلك الفترة قامت القوات الأوكرانية -ردًا على التقدم الروسي في شرق أوكرانيا- بإغراق القطعة البحرية الرئيسية في أسطول البحر الأسود طراد الصواريخ “موسكفا” في أبريل 2022 بصواريخ أوكرانية مضادة للسفن من طراز “نبتون”. سبقها تدمير سفينة الإنزال البرمائية “ساراتوف“. وفي خطوة متقدمة تم إدخال المسيرات البحرية على خط المواجهة في البحر الأسود بدايةٍ من أكتوبر 2022؛ حيث عملت الاستخبارات العسكرية الأوكرانية على إحداث فارق على مستوى المواجهة عبر المسيرات مثل: “ماجورا V-5 ” التي تم استخدامها في إغراق سفينة الصواريخ الروسية “إيفانوفيتس” في فبراير 2024، والمسيرة “سي بيبي” طويلة المدى. فضلًا عن مهاجمة مقر قيادة الأسطول الروسي في البحر الأسود، وحوض بناء السفن في سيفاستوبول، وجسر “كيرتش”. 

وعليه، فقد اضطرت روسيا لنقل أسطولها في بحر الأسود إلى موانئ أخرى آمنة من بينها نوفوروسيسك بعد أن خسرت حوالي ثلثه، وتعيين قائد الأسطول الشمالي “ألكسندر مويسيف” كقائد للبحرية الروسية بدلًا من الأدميرال “نيكولاي إيفمينوف” في محاولة لتعزيز قدراتها على المقاومة وإعادة بناء أسطولها البحري الذي يعتبر واحدًا من أهم أربعة أساطيل تمتلكهم روسيا لتأمين مصالحها الجيواستراتيجية، بالإضافة إلى دوره المحوري في تعزيز تحركاتها الخارجية لا سيما في سوريا وليبيا والبحر المتوسط. وقد تزامن مع ذلك بعض التصريحات الصحفية التي أفادت أن روسيا تعتزم بناء قاعدة عسكرية في أبخازيا بمنطقة أوشامتشير، بحسب ما نوه عنه “أصلان بزانيا” المسئول عن إدارة أبخازيا في أكتوبر 2023. في المقابل، صرحت الخارجية الجورجية أن مثل هذه المقترحات تعتبر “انتهاكًا صارخًا لسيادة جورجيا وسلامة أراضيها”. 

والجدير بالذكر، أن روسيا رغم خسائرها البحرية لا تزال لديها من القدرات التي تمكنها على الدفاع والردع على خلفية امتلاكها “أكثر من 60 غواصة و42 سفينة سطحية قادرة على إطلاق صواريخ كاليبر المجنحة ذات الرءوس النووية”، بحسب بيان قدمه الجنرال كريستوفر كافولي، القائد الأعلى لقوات الناتو في أوروبا أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في الثالث من أبريل 2025. بجانب توجهها نحو تعزيز هذه القدرات؛ حيث كشف الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” في الحادي عشر من الشهر ذاته عن اعتزام روسيا تخصيص حوالي 8.4 تريليونات روبل أي ما يعادل نحو 100 مليار دولار لتطوير قواتها البحرية خلال العقد المقبل. 

في إشارة إلى اهتمام موسكو المتصاعد بقدراتها البحرية التي قد تلعب دورًا محوريًا خلال الفترة المقبلة بما يتوافق مع الأهداف الروسية، ويضمن تأمين مصالحها في سواء في مجالها الحيوي أو توسيع نطاق تحركاتها في المياه البعيدة التي أضحت هدفًا لنشاط البحرية الروسية. 

ثانيًا- التوسع نحو المياه البعيدة: برغم محاولات روسيا تأكيد حضورها في المياه القريبة؛ إذ يُقدر طول ساحلها على البحر الأسود بحوالي 800 كيلو متر، بجانب تمركزاتها في جورجيا ومولدوفا والقرم، ومواصلة تعاونها البحري مع الصين من خلال تدريبات مشتركة في بحر الصين الجنوبي أو بحر اليابان وبحر أوخوتسك، تدريبات ومناورات كانت جزءًا من تدريبات أكبر قامت بها روسيا في المحيط الهادئ والقطب الشمالي والبحر المتوسط وبحر البلطيق وبحر قزوين عُرفت باسم “المحيط 2024” خلال عام 2024، فإنها سعت إلى التوسع نحو المياه البعيدة تفاديًا لتبعات التطويق الغربي في مجالها البحري الحيوي وتأكيد حضورها كقوة بحرية. الأمر الذي دفعها إلى إظهار القوة في منطقة المحيط الهندي بالاعتماد على التعاون مع “الدول الصديقة” عبر إجراء عدّة مناورات في المنطقة، مثل التدريب المشترك مع الصين وجنوب أفريقيا المعروف بـ “موسي-2” في فبراير 2023، علاوة على مناورتها الأول في ميانمار التي أُجريت في نوفمبر من العام نفسه، ودخول سفنها لأول مرة منذ عقود لميناء “شيتاجونج” بنجلاديش في خليج البنجال، في خطوة تعكس سعي روسيا لتوسيع نطاق حضورها -نسبيًا- في منطقة المحيط الهندي. 

علاوة على انطلاق المناورات المشتركة في أكتوبر 2024 التي تُدعى بـ “أيمكس-2024” في المحيط الهندي مع عمان وإيران لتعزيز “الأمن الجماعي في المنطقة وتوسيع التعاون المتعدد الأطراف وإظهار حسن النية والقدرات اللازمة لحماية السلام والصداقة والأمن البحري”، بالتزامن مع استمرار الاضطرابات في البحر الأحمر التي ارتبط بالحرب الإسرائيلية على غزة. كما أرسلت روسيا بعض القطع البحرية من أسطول المحيط الهادئ –الذي احتل أولوية متقدمة بالتزامن مع الحرب وشهد عمليات تفتيش مفاجئة لرفع جاهزيته القتالية في أبريل 2023 على خلفية توجيهات الرئيس “بوتين” بتعزيز قدرات الأساطيل الروسية- إلى بعض الدول المطلة على المحيط الهندي، كما شاركت في تدريبات مع إندونيسيا في نوفمبر 2024، بجانب انضمامها إلى مناورات “كومودو-25” التي أُجريت في فبراير 2025.

أعقبها المشاركة في المناورات “الحزام الأمني” مع بكين وطهران في مارس 2025 بالقرب من ميناء تشابهار الإيراني، وذلك في إطار الشراكة المتنامية بين الأطراف الثالثة، مستهدفة تعزيز القابلية للتصدي للتهديدات الأمنية المشتركة، كما حملت هذه التدريبات عدّة رسائل منها الرد بشكل غير مباشر على تحركات القوى الغربية والناتو التي أضحت ترى “موسكو تهديدًا للأمن الأوروبي-الأطلسي”، وبكين “عاملًا حاسمًا” لروسيا خلال حربها على أوكرانيا، و”تحدي ممنهج للأمن الأوروبي-الأطلسي”. وخلال الفترة من 26 مارس وحتى 10 أبريل 2025 انضمت القوات الروسية إلى الهندية في مناورات “إندرا نافي-2025“. بالإضافة إلى محاولتها المستمرة لإيجاد موطئ قدم مستدام على البحر الأحمر سواء عبر السودان أو إرتيريا، بما يمكنها من النفاذ الآمن إلى المحيط الهندي. 

ثالثًا- إعادة تأكيد وترسيم النفوذ: ردًا على العسكرة المتزايدة للبحر الأسود، عمل الناتو على إعادة تقييم استراتيجي لمكانته ودوره في المنطقة بما يتوافق مع تصوراتها للتهديدات المحتملة والقائمة، وهو ما تجلى في المفهوم الاستراتيجي للناتو لعام 2022، والذي رأى أن “الحشد العسكري لموسكو، بما في ذلك في مناطق بحر البلطيق والبحر الأسود والبحر المتوسط، إلى جانب تكاملها العسكري مع بيلاروسيا، يُشكّل تحديًا لأمنه ومصالحه”. مُعتبرًا أن “منطقة غرب البلقان والبحر الأسود تُعد ذات أهمية استراتيجية للحلف”. بالإضافة إلى ذلك قام بنشر مجموعتين قتاليتين متعددة الجنسيات في بلغاريا بقيادة إيطاليا ورمانيا بقيادة فرنسا، كجزء من تأمينه لجناحه الشرقي، وهو ما يعني أن منطقة البحر الأسود تحولت إلى منطقة للمواجهة المحتملة بين روسيا والحلف، خاصة في ضوء تنامي فرص الصدام. 

ويرجع ذلك إلى توجه روسيا أيضًا إلى تأكيد حضورها في المنطقة وهو ما أشارت إليه في عقيدتها البحرية المُحدثة الصادرة في يوليو 2022، موضحة إمكانية اللجوء للقوة للدفاع عن مصالحها كخيار أخير في المناطق ذات الأهمية بالنسبة لها مثل: البحر الأسود وشرق المتوسط وبحر البلطيق. وبحسب العقيدة البحرية فيما يتعلق بالبحر الأسود، ترى روسيا أهمية “ضمان -استنادًا إلى معايير القانون البحري الدولي- نظام قانوني دولي مواتٍ لها في البحر الأسود وبحر آزوف، وإجراءات استخدام الموارد البحرية البيولوجية، واستكشاف وتطوير حقول الهيدروكربون، وبناء وتشغيل خطوط الأنابيب تحت الماء. 

بجانب “تحسين قدرات وهيكل القوة (القوات) لأسطول البحر الأسود، وتطوير البنية التحتية الخاصة بهم في شبه جزيرة القرم وعلى طول ساحل إقليم كراسنودار، وبناء سفن نقل بحري تنافسية، وتزويد الأسطول بسفن ذات قدرة ملاحية مختلطة (نهر-بحر)”. 

و”تطوير مجمع لبناء السفن، بما في ذلك بناء وإصلاح السفن العسكرية والمدنية ذات الحمولة الثقيلة، على أساس مرافق بناء وإصلاح السفن في جمهورية القرم وسيفاستوبول”، وفقًا للعقيدة. 

لذا؛ فقد أوجدت هذه التطورات لروسيا قدرًا من التنافس وإعادة ترسيخ المكانة بجانب المناورة لتأمين مسارات النقل البحري لإمداداتها من الطاقة والمنتجات الغذائية، وممرات النفاذ الآمن إلى المياه الدافئة في شرق المتوسط في ضوء استنزاف قدراتها البحرية في المنطقة، والتطويق المتدرج لنفوذها في منطقة بحر البلطيق، وما تواجهه قواعدها في سوريا -الآن- من تحدٍ وجودي منذ سقوط نظام الأسد.

أما بالنسبة لتركيا، فقد منحها موقعها الجغرافي، بجانب اتفاقية “مونترو” لعام 1936 والمنظمة لحركة عبور السفن المدنية والحربية عبر المضائق التركية، دورًا متزايدّا في التفاعلات المرتبطة بالبحر الأسود خاصة مع اندلاع الحرب، وذلك في إطار توظيفها للصراعات الدولية بما يتوافق مع مصالحها المرتبطة بتحولات السياسة الداخلية، وطموحاتها التوسعية الإقليمية، ومكانتها كفاعل ذي ثقل في إدارة الأزمات الدولية، وسعيها لتنامي حجم مكاسبها في سياق استجابتها للحرب التي عكست مدى البراجماتية التركية بشكل عملي في السياسة الخارجية،

وهو ما برهنت عليه في رفضها لعسكرة البحر الأسود في إطار دعمها لأوكرانيا بمسيرات (بيرقدار TB2)، ومشاركتها في تحديث القدرات البحرية الأوكرانية، ورفضها سياسة الضم الروسية لا سيما لشبه جزيرة القرم انطلاقًا من اهتمام أنقرة بـ “تتار القرم” الذين يمثلون أولوية لها، بجانب دعمها لوحدة أراضي أوكرانيا. رغم ذلك لم تنساق مع الغرب في عزلة روسيا عبر العقوبات بما ضمن لها الاستفادة من تدفق إمدادات الطاقة الروسية إليها. 

واستكمالًا لسياساتها القائمة على “تركيا أولًا” علّقت موافقتها على انضمام السويد وفنلندا للحلف لحين الحصول بعض المكاسب السياسية والعسكرية منها الحصول على طائرات من طراز “F-16” في فبراير 2024. على الجانب الآخر، أسهمت على غرار حلفاء الناتو في دعم مهام القوات القتالية متعددة الجنسيات في بلغاريا ورمانيا. رغم ذلك تعرضت لانتقادات على خلفية منعها عبور سفينتين بريطانيتين لكشف عن الألغام متجهة إلى أوكرانيا عبر البحر الأسود في يناير 2024، رغم كونهما سفنًا دفاعية بحسب القائد الأعلى السابق لقوات الناتو “جيمس ستافريديس“.

وعليه، فقد أكدت تركيا من خلال هذه التحركات على أنها فاعل محوري في ضمان أمن البحر الأسود ليس لكونها من الدول المطلة عليه فحسب، بل لما أوجدته من شبكات مصالح في سياق الحرب أكدت على دورها المستقبلي في أي تفاهمات تخص البحر الأسود، وهو ما تجلى في استضافتها لاجتماع عسكري ضم ممثلين عن فرنسا والمملكة المتحدة وأوكرانيا بشأن أمن البحر الأسود خلال يومي 15 و16 أبريل 2025، كشف الرئيس الأوكراني –في حينها- عن أبعاده قائلًا: “إن هذا الاجتماع العسكري حول أمن البحر الأسود، يشمل بالأساس تحالفًا من الراغبين، ومناقشات حول الخطوات المناسبة. الأمر لا يتعلق بإنهاء الحرب، بل يتعلق بما سيحدث بعد وقف إطلاق النار – ضمانات أمنية”.

رابعًا- احتواء تبعات الحرب: شهدت منطقة البحر الأسود عدّة محاولات للحد من تنامي أخطار التصعيد بين روسيا وأكرانيا على مسارات التجارة الدولية؛ وهو ما تمثل في سعي تركيا للتوصل إلى هدنة مؤقتة بشأن إعادة تصدير الحبوب عبر البحر الأسود بالتعاون مع الأمم المتحدة، وقد استمر هذا الاتفاق من يوليو 2022 وحتى الانسحاب الروسي الأحادي على خلفية اتهام موسكو للغرب بتقييد صادراتها الغذائية من الحبوب في يوليو 2023. والجدير بالذكر أن الاتفاق أسهم في تصدير حوالي 33 مليون طن من الحبوب والمنتجات الغذائية الأوكرانية. 

استجابةً للخطر المتنامي للألغام البحرية العائمة في منطقة البحر الأسود، أعلنت كل من تركيا ورومانيا وبلغاريا عن اتفاقية أمنية لمواجهة هذه الأخطار في يناير 2024 عبر تشكّيل مجموعة عمل قائمة على إسهامات الدول الثلاث لمكافحة الألغام في البحر الأسود بهدف تأمين مسارات النقل البحري، دون استهداف أي دولة، كما أنها لا تعتبر جزءًا من مهام الحلف في المنطقة. وفقًا للاتفاقية، تتكون القوات التابعة لمجموعة من ثلاث سفن لمكافحة الألغام وسفينة قيادة وتحكم، تتمثل مهامها الأساسية في إجراء عمليات انتشار عددها لا يقل عن اثنتين كل ستة أشهر مع تغيير القيادة العامة، على أن تكون مدة العملية الواحدة حوالي 15 يومًا. 

ومع مواصلة الحرب بدون حسم، برزت محورية البحر الأسود -أيضًا- في إطار المباحثات التي أُجريت بين مسئولين أمريكيين وأوكرانيين وروس بشكل منفصل -على المستوى الفني- خلال الفترة من 23 إلى 25 مارس 2025 في الرياض تمهيدًا للتوصل إلى تسوية نهائية للحرب. وقد أعقبها إعلان البيت الأبيض عن اتفاق بين طرفي الحرب بشأن “منع استخدام القوة في البحر الأسود لتأمين حركة الملاحة الدولية ومنع استخدام السفن التجارية لأغراض عسكرية، بجانب وقف استهداف المنشآت الطاقة في روسيا وأوكرانيا”. وفي بيان آخر متطابق صادر عن البيت الأبيض -أيضًا- حول الهدنة المؤقتة في البحر الأسود، تم الإشارة إلى أن الولايات المتحدة “ستساعد في استعادة قدرة روسيا على الوصول إلى السوق العالمية للصادرات الزراعية والأسمدة، وخفض تكاليف التأمين البحري، وتحسين الوصول إلى أنظمة الدفع والموانئ”. 

الأمر الذي واجه ترحيبًا مشروطًا من قبل روسيا، ففي حين اعتبر المبعوث الروسي للاستثمار والتعاون الاقتصادي “كيريل دميترييف” أن نتائج المحادثات تمثل “تحولًا كبيرًا نحو السلام وتعزيز الأمن الغذائي العالمي وتوفير إمدادات الحبوب الأساسية لأكثر من 100 مليون شخص إضافي”. رهنت موسكو التزامها بالاتفاق بضرورة رفع العقوبات الأمريكية المفروضة عليها، بحسب ما أوضحه المتحدث باسم الكرملين بعد نحو ثلاثة أيام من الإعلان قائلًا: “إن جزءًا لا يتجزأ من مبادرة البحر الأسود هو رفع العقوبات عن مؤسسات المصرفية المشاركة في التسويات المتعلقة بالسلع الزراعية”، مُضيفًا “إذا رفضت الدول الأوروبية اتخاذ هذه الخطوة فهذا يعني أنها غير مهتمة باتباع طريق السلام”.

خامسًا- اختبار الجاهزية للدفاع الجماعي: أعادت الحرب الروسية-الأوكرانية تعريف التهديدات الأمنية في منطقة البحر الأسود، كما أوجدت أدوارًا جديدة للناتو بعد أن باتت المنطقة محل اهتمام استراتيجي بالنسبة له، وأيضًا لتركيا بلغاريا ورومانيا، جاءت أبرز مظاهرها في استمرار المناورات السنوية للحلف التي تشارك فيها بعض دول المنطقة بما يعزز من جاهزية قواته ويختبر قدراتها على الاستجابة لسيناريوهات الحرب الحديثة، وهو ما تمثل في النسخة العاشرة لمناورات “درع البحر-25” بقيادة رومانيا التي تمتلك ساحلًا على البحر الأسود طوله حوالي 245 كيلومترًا، علاوة على مشاركة ما يقرب من 2600 جندي من 12 دولة عضو في الناتو مثل تركيا وبلغاريا وإيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة منهم نحو 1600 جندي روماني، وقد اعتبرت البحرية الرومانية هذا المناورات بأنها “الحدث الأكثر تعقيدًا الذي تقوم به”. وفي محاولة لاختبار مدى قدرة الحلفاء للتعامل مع التهديدات الناجمة عن الحرب، شاركت مجموعة عمل مكافحة الألغام في البحر الأسود في هذه المناورات إلى جانب قوات متخصصة في الدفاع الإشعاعي والنووي والكيميائي والبيولوجي، وغواصيين مقاتلين. 

وبالنسبة لكل من بلغاريا ورومانيا وتركيا لم يكتفوا بتحسين الإجراءات الداعمة لتحسين القابلية للدفاع الجماعي تحت مظلة الحلف فقط، بل عملوا على تطوير قدراتهم الدفاعية، فعلى سبيل المثال، قامت بلغاريا بتحديث منظومتها الدفاعية الجوية والبحرية، مُلتزمة بإنفاق نحو 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع. فيما تعهدت رومانيا بزيادة نسبة إنفاقها إلى 2.5% من ناتجها المحلي الإجمالي كمخصصات مالية للدفاع، بجانب تحديث قواتها البحرية بما يتوافق مع التهديدات الراهنة هو ما تجلى في شراء كاسحتي ألغام من المملكة المتحدة في سبتمبر 2023، وإعلانها استثمار حوالي 2.7 مليار دولار لتوسيع قاعدة “ميخائيل كوجالنيشينو” الجوية، واستضافتها للقوات الأمريكية التي تنامت في أقل من عامين من ألف جندي بحلول يناير 2022 إلى نحو 3 آلاف جندي في يونيو 2023، لتعزيز قدراتها على الردع والاستجابة للتهديدات الأمنية. 

وفيما يتعلق بتركيا ثاني أكبر قوة عسكرية في الناتو، فقد عملت على زيادة ميزانيتها الدفاعية، وتعزيز قدراتها وقواتها المسلحة المكونة من نحو 775 ألف جندي، إلى جانب حوالي 92 سفينة، و1900 دبابة، و3100 نظام مدفعية، و850 طائرة، بالاعتماد على صناعتها المحلية، بجانب تنويع مصادر السلاح ومنظومات الدفاع الجوي. فضلًا عن مشاركتها في المبادرة الألمانية الرامية لإنشاء نظام دفاعي صاروخي أوروبي عبر “السماح بشراء أنظمة صواريخ غير أوروبية لا سيما صواريخ باتريوت الأمريكية وأنظمة الدفاع الجوي الإسرائيلية من طراز آرو-3″، والمُعروفة بـ “درع السماء” في فبراير 2024؛ حيث أوضح وزير الدفاع التركي أن الهدف من هذا الانضمام يعتبر “خطوة مهمة نحو تلبية احتياجات الناتو”.

والجدير بالذكر، أن توجه حلفاء الناتو في المنطقة نحو تعزيز قدراتهم الدفاعية وتأمين مصالحهم الأمنية قد يعزز من فرص التعاون في مجال الطاقة، وذلك وفق عدّة اعتبارات مرجحة؛ منها التوجه نحو التخلي التدريجي عن إمدادات الطاقة الروسية، وطموح أنقرة في أن تصبح مركزًا إقليميًا لنقل الطاقة، بجانب الأهمية الجغرافية للمنطقة التي تعتبر من أهم مسارات نقل الطاقة إلى أوروبا، فضلًا عن حجم احتياطيات الطاقة في هذه المنطقة، والتي أشار إليها تقرير صادر عن “الجمعية البرلمانية للناتو” في أكتوبر 2023 تحت عنوان: “مياه مضطربة – كيف تُغير حرب روسيا في أوكرانيا أمن البحر الأسود“. ووفقًا للتقرير “أعلنت أنقرة أن حجم احتياطيات الغاز في منطقتها الاقتصادية الخالصة قد يصل إلى 710 مليارات متر مكعب، بينما يُعتقد أن رومانيا تمتلك ما بين 150 و200 مليار متر مكعب من الغاز. فيما قد يوجد في الجرف الأوكراني أكثر من تريليوني متر مكعب من الغاز، وفقًا للتوقعات الأولية”، بحسب التقرير.

 الأمر الذي قد يُفسر محاولات روسيا لعزل أوكرانيا عن البحر الأسود عبر الاستهداف المُتكرر لمدينة أوديسا في جنوب أوكرانيا. فضلًا عن محاولة رومانيا زيادة إنتاجها من الغاز؛ حيث أعلن مشروع “نيبتون ديب” للغاز البحري في مارس 2025 عن بدء أعمال الحفر في البحر الأسود. وبحسب وزارة الطاقة الرومانية من المحتمل أن يسهم إنتاج “نيبتون ديب” في تحويل بوخارست إلى “مُصدر صافٍ للغاز”. رغم ذلك لا توجد تفاصيل حول الكمية المرجحة للتصدير في إطار احتمالية زيادة الاستهلاك الداخلي. على الجانب الآخر، كشفت تركيا -أيضًا- في أبريل 2025 أنها تعمل على عقد اتفاق للتنقيب قبالة سواحل بلغاريا في البحر الأسود.

ختامًا، بالرغم من الجهود التي تقوم بها الدول الضامنة لأمن البحر الأسود فإنها غير متكاملة، بل في العديد من الأحيان باتت متنافسة؛ مما قد يُنذر بتصاعد فرص الصدام في منطقة البحر الأسود بين روسيا وأوكرانيا من ناحية خاصة إذا استمرت الحرب بدون آفاق محتملة للتسوية على المدى القريب، ومن ناحية أخرى بين وروسيا ودول الحلف المطلة على البحر الأسود؛ إذ من المتوقع أن تحمل هذه المواجهة التي تحمل في طياتها سيناريوهات للحرب الهجينة تفاديًا لتبعات الحرب العسكرية المباشرة مع بلغاريا ورومانيا وتركيا بموجب مبدأ الدفاع الجماعي، علاوة على أن المواجهة بين روسيا وتركيا تحكمها علاقات براجماتية ومصالح مشتركة في العديد من مناطق الصراعات قد تتحول في حينها إلى ساحات خلفية للمواجهة أكثر من البحر الأسود في حد ذاتها. ولكن هذا لا ينفي احتمالات الرد الروسي على تركيا في البحر الأسود بالتوازي مع تنامي تحركاتها في المنطقة، ودورها المُحتمل في ترتيبات اليوم التالي في أوكرانيا.

 

تم نسخ الرابط