عاجل

المقاربة الثقافية في التفاعلات الأمريكية الخليجية من منظور جديد

الرئيس الأمريكي ترامب
الرئيس الأمريكي ترامب

شهدت الفترة الأخيرة جولة خليجية للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، شملت دول: السعودية، وقطر، والإمارات، وتزامنت هذه الجولة مع أوضاع أمنية معقدة ومتوترة في المنطقة، وكانت – إلى جانب العلاقات البينية – محور الاهتمام والتركيز، وبالرغم من ذلك، فإن جولة “ترامب” لم تكن مجرد جولة دبلوماسية عابرة، حيث حملت طابعًا ثقافيًا خاصًا، فقد ركزت على ثلاث دول خليجية متقاربة في أبعادها الاجتماعية والثقافية ولديها طموحات متشابهة في مجال الدبلوماسية الناعمة، حيث أظهرت تطورًا لافتًا خلال العقد الماضي في التحول من المجتمع النمطي التقليدي إلى المجتمع الحديث وذلك على المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والرياضي وغيره، ومثلت نموذجًا لمجتمعات استطاعت إحداث تحولات اجتماعية عميقة.

محفزات أمريكية:

ووفقًا لدراسة أعدها المركز القومي لدراسات الشرق الأوسط، لم يكن اختيار الدول الخليجية – وفقًا للروية الخليجية – نابعًا فقط من العلاقة الوثيقة التي تجمعها بالولايات المتحدة في المجالات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية فحسب، وإنما أيضًا من تحقيق أهداف ذات الصلة بالأبعاد الثقافية، فمثلًا، تتمتع الولايات المتحدة بعلاقات ثقافية ممتدة مع السعودية، من أبرز مؤشرات ذلك برنامج الابتعاث للدراسة في الجامعات الأمريكية، والذي بدأ عام 2006، واستفاد منه نحو نصف مليون طالب وطالبة، منهم نحو 15 ألف عام 2025، هذا إلى جانب إبرام اتفاقات لتعزيز التبادل الثقافي بين الجانبين.

وقد وظفت الولايات المتحدة الزيارة للسعودية بشكلٍ خاص – نظرًا لثقلها الثقل الديني وكونها دولة إقليمية رئيسية – في محاولة لإيصال رسالة للعالمين العربي والإسلامي بأن الولايات المتحدة تتقبل الثقافات الأخرى، وأنه لا توجد مشكلة حقيقية معها، وهو ما يأتي كقراءة أمريكية لواقع المنطقة، وتراجع شعبيتها فيها، وهو ما تؤكده العديد من استطلاعات الرأي، والتي تُفيد بتراجع شعبية الولايات المتحدة بين دول المنطقة لصالح قوى أخرى مثل الصين وروسيا، حيث أكد معهد واشنطن[1] في استطلاع أجراه في أغسطس 2023 أن نحو 61% من السعوديين يرون أنه يجب تنويع الشراكات مع الصين وروسيا وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة فحسب، وهي نسبة مقاربة أو متشابهة لاستطلاعات أخرى أجراها المعهد في دولتي قطر (56%) والإمارات (61%) التي زارها “ترامب”، وقد تعمقت النظرة السلبية للولايات المتحدة بعد اندلاع الحرب في غزة، والدعم الواسع لإسرائيل، حيث تراجعت مكانة الولايات المتحدة بمعدلات كبيرة عن الفترة التي سبقت الحرب (كما هو موضح بالشكل التالي)، في مقابل تزايد شعبية الصين، وتحسن النظرة تجاهها[2].

يُضاف إلى ذلك رغبة “ترامب” في بناء صورة عالمية عنه مفادها أنه قائد معتدل، قادر على تعزيز حضوره في المناطق المأزومة – مثل منطقة الشرق الأوسط – وإبرام التحالفات العابرة للثقافات، بل وإحداث تقدم في الملفات والأزمات المُلحة والحرجة في هذه المنطقة الملتهبة، وبالتالي فإن ذلك الأمر – مع الأخذ في الاعتبار جهوده للتهدئة والوساطة في مناطق أخرى، مثل التهدئة بين الهند وباكستان، وبين روسيا وأوكرانيا – قد يُسهم في تحقيق “ترامب” لتطلعاته بأن يفوز بجائزة نوبل للسلام.

توظيف خليجي:

وظفت دول الخليج التي زارها الرئيس “ترامب” التركيز والاهتمام السياسي والإعلامي الذي حظيت به من أجل التأكيد على فخرها بالهوية الوطنية، والتوازن بين الانفتاح على الشراكات الدولية والتمسك بالهوية الثقافية، إلى جانب إظهار التقدم المحرز في هذا الصدد، ويُدلل على ذلك ما شهدته زيارات “ترامب” من مظاهر احتفالية ذات طابع ثقافي، تمثلت في العروض الفلكلورية التراثية بالأزياء الخليجية التقليدية والموسيقى المحلية.

وعلى الرغم من هذا الاهتمام الخليجي بإبراز التراث الثقافي، فإن هناك أبعاد أخرى تتخطى فكرة الرمزية والدلالة الثقافية، الأمر الذي يكشفه انتقاء مواقع محددة ليقوم “ترامب” بزيارتها، ففي السعودية، زار “ترامب” مدينة الدرعية التي تكتسب أهمية محورية في العقل الجمعي السعودي[3]، ذلك أنها تعد بمثابة نقطة انطلاق الدولة السعودية وعاصمة الدولة السعودية الأولى، ويوظف الجانب السعودي زيارات القادة العالميين (مثل قادة الولايات المتحدة وفرنسا وإيطاليا) إليها، وتنظم لهم فعاليات في مناطق تاريخية وسياحية (خاصةً الدرعية ومحافظة العُلا) خاصةً مع وجود اهتمام إعلامي عالمي يصاحب هذه الزيارات.

وينطبق الأمر ذاته على الإمارات، التي حرصت على قيام “ترامب” بزيارة كنيس يهودي ضمن جولة في بيت العائلة الإبراهيمية، ما يعكس رغبة الإمارات في إظهار أنها تتبنى مبادئ التعايش بين الأديان، وهو ما أكده بيان للسفارة الأمريكية لدى الإمارات بأن بيت العائلة الإبراهيمية يُشكل رمزًا للتسامح الديني والتعايش الإنساني، كما أجرى “ترامب” زيارة إلى قاعدة العديد الجوية في قطر، التي تضم أكثر من 10 آلاف جندي، وتمثل ركيزة مهمة في تحقيق المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.

تأثيرات أخرى:

بشكلٍ عام، تطرح المقاربة الأمريكية الخليجية نمطًا جديدًا في العلاقات، وهو المقوم الثقافي، من أجل تحقيق عوائد اقتصادية، مع التركيز على قطاع السياحة، فمثلًا، استطاعت السعودية جذب 30 مليون زائر خلال عام 2024، وتصدرت قائمة دول مجموعة العشرين في مؤشرات نسبة نمو عدد السياح الدوليين ونمو إيرادات السياحة الدولية، بنسبة وصلت إلى نحو 207% خلال الأشهر السبعة الأولى من عام 2024، ويرجع ذلك بشكلٍ أساسي إلى الجهود السعودية لرفع مساهمة السياحة في الناتج المحلي الإجمالي ضمن مستهدفات رؤية 2030، بما شمل إقامة مشروعات كبرى (مثل: نيوم)، وتحسين الخدمات والبنية التحتية وتعزيز السياحة الداخلية، وتنظيم العديد من الفعاليات الثقافية والرياضية والسياحة (مثل: موسم الرياض، وموسم جدة، ومهرجان البحر الأحمر السينمائي).

وفي السياق ذاته، استمرت الإمارات في جهود تعزيز قطاعي الثقافة والسياحة، بما في ذلك إنشاء الفنادق والمنتجعات السياحية، وتطوير البنية التحتية السياحية، وتسهيل إجراءات الحصول على التأشيرات، فضلًا عن ترميم المواقع التاريخية والتراثية، وتسجيلها على قوائم التراث العالمي لليونسكو، ودمجها ضمن وجهاتها السياحية، وإقامة العديد من المهرجات الثقافية والفنية، (مثل: مهرجان دبي السينمائي الدولي)، وقد أدت هذه الجهود الإماراتية إلى تحقيق نتائج إيجابية ملحوظة خلال عام 2024، حيث ارتفعت إيرادات المنشآت الفندقية إلى نحو 45 مليار درهم، بنسبة نمو بلغت 3%، كما أنها تتبوء موقعًا متقدمًا إقليميًا وعالميًا في معدل الإشغال الفندقي بنسبة وصلت إلى نحو 78%.

فيما أطلقت قطر عام 2014 استراتيجيتها الوطنية لقطاع السياحة، وهدفت من خلالها لتعزيز مكانة قطر كوجهة سياحية عالمية، وحققت عام 2024 تقدمًا ملحوظًا، بفضل العديد من الفعاليات الترفيهية والرياضية والتي من أبرزها كأس آسيا لكرة القدم، وجائزة قطر الكبرى للفورمولا 1، حيث استقبلت قطر نحو 5 مليون زائر، بنسبة زيادة وصلت إلى نحو 25%، وارتفع حجم الإنفاق السياحي إلى 10.7 مليار دولار بزيادة قدرها 38%.

وختامًا، يُشير توسع دول الخليج في الاهتمام بالمقاربة الثقافية وما يرتبط بها من مجالات أخرى متعددة ومتنوعة إلى الإدراك المتزايد بهذا العنصر الحيوي، ليس فقط فيما يتعلق بالتنمية الداخلية، ولكن أيضًا في تعزيز قوتها الناعمة، وتوظيف ثقافتها في التعبير عن هويتها وصورتها وسمعتها الدولية، لا سيما مع تزايد انخراطها خلال السنوات الأخيرة في جهود الوساطة والتهدئة في العديد من الأزمات الإقليمية والدولية المُلحة.

تم نسخ الرابط