قصة بقرة بني إسرائيل.. درس إيماني خالد في الطاعة والتسليم

في سرد قرآني بديع، تتجلى واحدة من أبرز قصص بني إسرائيل، التي ترسّخ معاني الطاعة والثقة في أوامر الله دون جدال أو مماطلة. إنها قصة بقرة بني إسرائيل، والتي وردت في سورة البقرة، وسُميت السورة على اسمها، لما تحمله من رمزية عميقة ودروس عقدية وتربوية.
قصة بقرة بني إسرائيل
تبدأ القصة بحدث مأساوي في بني إسرائيل: جريمة قتل غامضة لا يعرف أحد فاعلها. لجأ الناس إلى نبيهم موسى عليه السلام، يطلبون منه أن يسأل ربّه ليكشف القاتل. فجاء الأمر الإلهي بما لم يكن في حسبانهم: {وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة: 67].
هكذا جاء أول اختبار لطاعتهم، ولكن بدلاً من تنفيذ الأمر، بدأوا بالجدال، والتشكيك، وكأنهم يسعون للتملص من التنفيذ.
سألوا موسى عن نوع البقرة، فقال: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ} [البقرة: 68].
ثم عادوا وسألوا عن لونها: {إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة: 69].
ثم كرروا السؤال عن أوصافها، بحجة أن البقر قد تشابه عليهم، فكان الرد:
{إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَّا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ ۙ مُسَلَّمَةٌ لَّا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71].
وبعد تنفيذهم المتأخر للأمر، كشف الله عن الغيب بمعجزة:
{وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَّا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ * فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة: 72-73].
فإذا بالميت يعود إلى الحياة، ويُخبر باسم قاتله، في مشهد معجز يُثبت قدرة الله ويختم الجدل.
الدروس المستفادة من القصة:
1. الطاعة لا تحتاج لتعقيد:
كان بإمكان بني إسرائيل تنفيذ الأمر من البداية، لكن تسويفهم أوقعهم في الحرج وجعل المهمة أصعب.
2. الجدال مع الأوامر الإلهية يكشف النوايا:
فلو كانت النية خالصة، لما ألحّوا في الأسئلة، ولكنهم كانوا يتمنون الإفلات من الأمر.
3. التسليم سرّ البركة:
حين سلّموا أخيرًا وذبحوا البقرة، جاءهم الحق وتجلت المعجزة.
4. القرآن يُرشد إلى أن العبرة ليست في الرواية، بل في العِظة:
ولهذا سُميت أطول سور القرآن بـ”سورة البقرة”، تخليدًا لهذه الحادثة.
5. منهج الإيمان مبني على الثقة في الحكمة الإلهية:
فالعبد لا يُطالب بفهم الحكمة في كل أمر، بل باليقين في أن الله لا يأمر إلا بما فيه خير.
تبقى قصة بقرة بني إسرائيل درسًا خالدًا للأمم: حين يُصدر الله أمرًا، فليس مطلوبًا من العبد أن يفاوض، بل أن يُسارع. لأن في الطاعة راحة، وفي الجدال تعب، وفي الثقة بالله حياة… حتى بعد الموت