«كائن حيّ تُصان كرامته».. كيف ينظر الصوفية لـ الوطن؟|خاص

قدّم الصوفية درسًا هادئًا وعميقًا في الانتماء الوطني، لم يكن على منبر، ولا في صفحات الجرائد، بل في الزوايا والخلوات، في صحون المساجد، وعلى موائد الفقراء، وفي القلوب التي تعلّقت بالله فلم تنفصل عن خلقه وأرضه.
كيف علّم الصوفية الناس معنى الانتماء للوطن؟
قال الباحث الصوفي مصطفى زايد لـ نيوز رووم: الصوفية علموا الناس أن الانتماء للوطن ليس صوتًا مرتفعًا، بل سلوكًا خفيًّا نابعًا من صدق المحبة، وأمانة الخدمة، ونور الرحمة. فكل وطنٍ عندهم هو ميدان للعبادة، وأرض للزرع، ودار للعمار.
خدمة الأرض قبل خدمة النفس
أضاف زايد: أولى دروس الصوفية في حب الوطن كانت أن تُخدَم الأرض لا أن تُستَغَل. فالصوفي لا يعيش على هامش ترابه، بل يحفر فيه، يزرع، ويصلح، ويعالج.
روى الشعراني في "الطبقات الكبرى" عن سيدي علي الخوّاص أنه كان يقول:
«من خدم تراب أرضه حُشر يوم القيامة وهو عنها راضٍ، ومن أهملها دخل في جملة الخائنين».
وقد عُرف عن الخوّاص أنه كان يُصلح آبار الماء بنفسه، ويطوف على البساتين يعلّم الفلاحين دون أن ينتظر أجرًا.
وأكد «زايد» أن الصوفية علموا الناس أن الأوطان تُبنى بالستر لا بالفضائح، وبالصفح لا بالضغائن. كان الشيخ أبو الحسن الشاذلي يقول: "ستر المسلم من ستر الأرض، فإذا كشفت عورته، انكشفت الأرض من بركتها."
فالوطن عندهم ليس فقط حجارة وحدودًا، بل كائن حيّ تُصان كرامته بصيانة كرامة أبنائه. كان الأولياء يُعلّمون الناس أن لا يخونوا بعضهم، لأن الخيانة تُشرّع الباب لسقوط المدينة من داخلها.
وقال الباحث الصوفي مصطفى زايد: لم يفرّ الأولياء من مواطنهم حين حلّ البلاء، بل كانوا السند الروحي في لحظات الضعف. فحين ضربت المجاعة القاهرة، روى المقريزي أن الصوفية كانوا يجتمعون في زواياهم يوزّعون الطعام من قوتهم، وينشدون الذكر ليرفعوا عن الناس كرب الخوف، وفي مخطوطة "المنن الخفية"، ورد عن سيدي محمد السمان: "الوطن حين يضيق يحتاج إلى قلوب واسعة، لا إلى ألسن فزعة."
وأوضح «زايد» غالبًا ما يُساء فهم الصوفية باعتبارهم زاهدين منقطعين، لا يعنيهم شأن الأرض. لكن الحقيقة أنهم كانوا أوفى الناس لترابهم، رغم زهدهم في زخارف الدنيا.
كتب ابن عطاء الله السكندري في الحِكم: "لا يكن زهدك في خدمتها، بل في حظ نفسك منها."، أي أن الزاهد لا يتخلّى عن وطنه، بل يتخلّى عن طمعه في الوطن، ليكون خادماً له لا ناهباً منه.
حب الوطن من نور المحبة الإلهية
قال سيدي عبد الغني النابلسي في رسائله: "من أحبّ الله أحبّ خَلقه، ومن أحبّ خلقه أحبّ أرضهم، لأنها موطن الأمان والبذل، لا موضع الشهوة والملك."
ففي نظر الصوفية، كل حبّ لله يتفرّع عنه حبّ لكل شيء، وأولها الوطن. لا يمكن أن يكتمل السلوك إلى الله مع بغض الأرض التي نمشي عليها، ونُرزق منها، وتُصلي فيها أقدامنا لله.
تابع «زايد»: لم يحمل الصوفي راية سياسية، لكنه حمل راية روحية ظلّت شامخة لأنها لا تطلب شيئًا لنفسها. علّم الأولياء الناس أن يكونوا للوطن كما يكون المصلي لمحرابه: يخشع، ويتطهّر، ويبكي، ولا يخرج إلا وقد تغيّر حاله.
هكذا علّمونا الانتماء دون أن يُلقوا دروسًا، وحب الوطن دون أن يطلبوا مالًا، وخدمة الأرض دون أن يزاحموا على الكراسي. في صمتهم بركة، وفي خلواتهم دروس، وفي سيرهم نور يُضيء كل وطن يُحب أن يُبنى لا أن يُهدم.