عاجل

أم المؤمنين أم سلمة .. سيدة الحكمة وصاحبة الرأي السديد

أم سلمة
أم سلمة

برزت  أم سلمة، هند بنت أبي أمية، التي لم تكن مجرد زوجة للنبي محمد ﷺ، بل كانت امرأة ذات عقل راجح، وفكر عميق، وبصيرة نافذة.

لقد كانت شخصية بارزة في العديد من المواقف التاريخية، كان لها دور حاسم في صلح الحديبية، وكانت من أكثر أمهات المؤمنين علمًا وفقهًا، فروت عددًا كبيرًا من الأحاديث النبوية التي أصبحت مرجعًا للأمة الإسلامية على مر العصور.

نشأتها ونسبها.. ابنة المجد والكرم

وُلدت هند بنت أبي أمية في مكة المكرمة، ونشأت في بيت عريق من بني مخزوم، كان والدها، أبو أمية بن المغيرة، من كبار قريش، واشتهر بكرمه حتى لُقب بـ "زاد الراكب"، لأنه لم يكن يدع مسافرًا يخرج من مكة إلا وقد زوده بالطعام والمؤونة.

نشأت أم سلمة في بيئة عامرة بالنبل والكرم، وتربّت على مكارم الأخلاق، فكانت منذ صغرها ذكية، قوية الشخصية، وحكيمة في قراراتها.

زواجها من أبي سلمة.. حب وإيمان وتضحية

تزوجت أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد المخزومي، وكان زواجهما مثالًا للمودة والوفاء، وكانا من أوائل الذين اعتنقوا الإسلام، وواجهوا معًا الاضطهاد من قريش، حتى اضطرا إلى الهجرة إلى الحبشة ثم إلى المدينة المنورة.

لكن أصعب محنة واجهتها أم سلمة كانت عندما فُرّقت عن زوجها وابنها، عندما قررا الهجرة إلى المدينة، منعها أهلها من السفر، وأخذوا منها طفلها، مما جعلها تعيش عامًا كاملًا من الألم والانتظار، كانت تخرج يوميًا إلى أطراف مكة تبكي على فراق زوجها وابنها، حتى رق قلب قومها، وأعادوا لها طفلها، فانطلقت وحدها في رحلة شاقة إلى المدينة، حتى التقت بزوجها من جديد.

لم تدم سعادتها طويلًا، فقد استُشهد أبو سلمة في غزوة أحد، تاركًا إياها أرملة وأمًا لأربعة أطفال، تواجه الحياة بمفردها من جديد.

زواجها من النبي ﷺ .. جبر الله لخواطر الصابرين

بعد وفاة زوجها، كانت تردد الدعاء الذي علمها إياه النبي ﷺ: "اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها." لكنها كانت تتساءل: "ومن خير من أبي سلمة؟"

لم تكن تعلم أن الله قد أعدّ لها خير البشر، فقد تقدم النبي محمد ﷺ لخطبتها، لكنها كانت مترددة، وقالت:
"إني امرأة غَيُور، وإني أم لأطفال، وإني امرأة كبيرة." فأجابها النبي ﷺ برفق: "أما غيرتك، فسأدعو الله أن يذهبها، وأما أطفالك، فهم أبنائي، وأما كبر سنك، فأنا أكبر منك."

وهكذا، أصبحت زوجة للنبي ﷺ، وأمًا للمؤمنين، ومستشارة حكيمة في بيته، وصاحبة رأي مؤثر في القضايا المهمة.

صلح الحديبية.. حين أنقذت حكمتها الموقف

كان موقفها في صلح الحديبية أحد أبرز الشواهد على ذكائها وحنكتها، فعندما وافق النبي ﷺ على شروط الصلح مع قريش، أصيب الصحابة بالإحباط، وتأخروا في تنفيذ أمره بحلق رؤوسهم ونحر الهدي.

دخل النبي ﷺ إلى أم سلمة وهو مهموم، فاستشارها، فقالت له بكل ثقة: "يا نبي الله، اخرج إليهم، ولا تكلم أحدًا، حتى تنحر هديك وتحلق رأسك، فإنهم إذا رأوك فعلت، فعلوا مثلك." فخرج النبي ﷺ، وفعل ما أشارت به عليه، فاقتدى به الصحابة على الفور.

كانت هذه اللحظة نقطة تحول مهمة، أثبتت أن أم سلمة لم تكن مجرد زوجة في بيت النبوة، بل كانت عقلًا راجحًا ومستشارة حقيقية.

أم سلمة.. العالمة الفقيهة وراوية الحديث

لم تكن أم سلمة مجرد زوجة صالحة، بل كانت عالمة فقيهة، وروت 378 حديثًا نبويًا شملت قضايا العقيدة، الفقه، والعبادات.

وكان الصحابة يرجعون إليها في المسائل الفقهية، ويأخذون برأيها لما عُرفت به من حكمة وسعة علم.

ومن الأحاديث التي روتها عن النبي ﷺ: "كان رسول الله ﷺ إذا سلم قال: اللهم أنت السلام ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام."

كما كانت داعية بين النساء، تنقل لهن تعاليم الإسلام، وتُعلمهن أمور دينهن، فكانت قدوة حقيقية في العلم والدعوة.

مكانتها بين أمهات المؤمنين

كانت أم سلمة من أكثر زوجات النبي ذكاءً وقوة شخصية، وكانت مؤثرة بين الصحابة، خاصة في الأمور المتعلقة بالنساء. كان النبي ﷺ يستشيرها في العديد من القضايا، وكان رأيها دائمًا محل احترام وتقدير.

تميزت باستقلاليتها ورجاحة عقلها، وكانت نموذجًا يُحتذى به في القيادة النسائية في الإسلام.

وفاتها وإرثها العظيم

عاشت أم سلمة عمرًا مديدًا، حتى بلغت 90 عامًا، وكانت آخر أمهات المؤمنين وفاةً، حيث توفيت سنة 61 هـ، ودُفنت في البقيع.

لكنها لم ترحل عن ذاكرة الأمة، فقد بقيت سيرتها وأحاديثها ومواقفها العظيمة نورًا يهتدي به المسلمون جيلًا بعد جيل.

دروس من حياة أم سلمة

١.الصبر والتوكل على الله: لم تستسلم رغم المحن، فجازاها الله خيرًا مما فقدت.
٢.الذكاء وحسن التصرف: أنقذت موقفًا صعبًا في صلح الحديبية، وأثبتت أن الحكمة ليست حكرًا على الرجال.
٣.نقل العلم ونشره: كانت من أبرز رواة الحديث، وساهمت في تعليم الرجال والنساء على حد سواء.

أم سلمة ..  قدوة لكل امرأة

لم تكن أم سلمة مجرد زوجة للنبي ﷺ، بل كانت عقلًا مفكرًا، ولسانًا ناصحًا، وقلبًا صابرًا، سيرتها تُعلمنا أن المرأة تستطيع أن تكون قوية، حكيمة، وصاحبة تأثير في مجتمعها، إذا جمعت بين العلم، الصبر، وحسن التدبير.

إرثها لا يزال حيًا، وسيرتها ليست مجرد ذكرى في الكتب، بل إلهام خالد لكل امرأة تسعى لأن يكون لها أثر في الحياة.

تم نسخ الرابط