عيسى بن مريم عليه السلام.. نبي المعجزات والرحمة ورسول التوحيد

في كل زمانٍ يبعث الله أنبياءه لهداية البشر، لكن بعضهم جاء برسالةٍ عظيمة حملت نورًا خارقًا للعقول، ومعجزات تخترق قوانين الطبيعة. ومن هؤلاء، نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام، الذي اصطفاه الله بمعجزة الميلاد من غير أب، وجعل من حياته سلسلة من الآيات الباهرة والدعوة الرحيمة التي أعادت التأكيد على جوهر الإيمان: التوحيد الخالص لله.
مولد سيدنا عيسى
قصة عيسى عليه السلام ليست مجرد حكاية نبي، بل هي صفحة مشرقة من تاريخ الإنسانية، تمثل لقاءً بين الروح والإيمان، وبين المعجزة والواقع، وبين الطهر والتحدي. من مولده في حضن الطهارة، إلى رفعه إلى السماء، وحتى عودته المنتظرة في آخر الزمان، تبقى رسالته شاهدة على صدق الوحي، وعظمة الرحمة الإلهية التي تتجلى في رسل الله
وجاءت سيرته مثالًا نادرًا في الطهر والنقاء، والزهد والتقوى، وكان مولده نفسه آية من آيات الله، لأنه جاء بعد دعاء طويل من والده النبي زكريا الذي بلغه الكبر واشتعل رأسه شيبًا وكانت امرأته عاقرًا.
قال الله تعالى في كتابه الكريم على لسان زكريا:
“رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ” [آل عمران: 38]،
فاستجاب الله الدعاء وبشره بيحيى، وقال:
“يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا” [مريم: 7].
تميز يحيى عليه السلام منذ صغره بالحكمة والورع، إذ قال تعالى:
“يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا” [مريم: 12]، وهو ما يدل على نبوغه المبكر والتزامه برسالة السماء منذ نعومة أظفاره. وقد مدحه الله بصفات عظيمة فقال:
“وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا” [مريم: 13-14].
اشتهر يحيى عليه السلام بزهده الشديد وبُعده عن ملذات الدنيا، وكان لا يأكل إلا من نبات الأرض، ولا يلبس إلا من وبر الجمال. وكان صوته في الدعوة إلى الله مؤثرًا، وقد دعا بني إسرائيل إلى التوبة والعودة إلى الله، وكان صريحًا لا يخشى في الله لومة لائم، وهو ما جعله عرضة لغضب الحكام آنذاك.
وقد ارتبط يحيى عليه السلام بعلاقة قوية مع النبي عيسى عليه السلام، إذ كان هو أول من بشّر بقدومه، وجاء على لسانه قوله:
“مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ” [آل عمران: 39]، أي مصدقًا بعيسى، الذي كان كلمة الله إلى مريم. وتُظهر هذه العلاقة مدى التناسق بين الرسالات السماوية، وأنها جميعها جاءت لتهدي الناس إلى الله.
أما نهاية يحيى عليه السلام فكانت مأساوية، إذ قُتل ظلمًا وعدوانًا على يد طاغية من طغاة زمانه بعد أن عارضه يحيى في أمر فاسد يتعلق بزواجه من امرأة لا تحل له، فكان جزاء النصيحة الصادقة القتل، فارتقى شهيدًا في سبيل الحق.
إن قصة يحيى عليه السلام تحمل في طياتها دروسًا في الصبر، والطهارة، والتمسك بالمبادئ مهما كانت التضحيات. هو نبي لم يُجرب معصية، وكان خاشعًا لله منذ صغره، حتى استحق أن يُذكر في القرآن الكريم ضمن أولئك الذين “أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين”