أم زُفر.. صحابية جليلة تختار طريق الصبر وتعلّم الأجيال معنى الحياء والإيمان

من بين مئات القصص التي سجّلها التاريخ الإسلامي عن الصحابة والتابعين، تبقى قصة الصحابية الجليلة أم زُفر واحدة من القصص التي تتجاوز حدود الزمان والمكان، وتحمل في طيّاتها رسالة خالدة عن الصبر، الإيمان، والحياء.
نشأتها وإسلامها.. امرأة من المدينة سبقت بقلبها إلى النور
رغم أن كتب السير لم تذكر الكثير من التفاصيل عن نشأة الصحابية أم زفر، إلا أن المرويات تؤكد أنها كانت من نساء المدينة المنورة، ومن أوائل من دخلوا الإسلام بعد ظهوره في يثرب، سواء قبيل الهجرة أو بعدها بفترة قصيرة. ويُرجّح أنها كانت من الأنصاريات اللواتي استجبن لدعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وكنّ من اللبنات الأولى في بناء المجتمع الإسلامي الجديد.
اسمها الحقيقي غير موثق بدقة، وقد عُرفت بكنيتها “أم زفر”، وهو اسم ارتبط بها لسبب غير محدد، وقد يكون نسبة إلى أحد أبنائها أو أقاربها. ومع ذلك، فإن هذا الاسم البسيط أصبح عنوانًا لقصة عظيمة في كتب السيرة والحديث، تدل على مدى صدق الإيمان، وقوة الروح، وعلو الهمة.
عاشت أم زفر في مجتمع كان لا يمنح المرأة مكانة كبيرة قبل الإسلام، فجاء الدين الجديد ليعلي من شأنها، ويمنحها احترامًا وكرامة غير مسبوقة، فكانت من النساء اللواتي تمسكن بالإسلام بكل جوارحهن، وعشن تفاصيله في اليوم والليلة، وعرفن أن العافية الكبرى هي عافية القلب والنية.
موقفها مع النبي: حياء فوق الألم، والصبر بوعد الجنة
عُرفت أم زفر بأنها كانت تُصاب بنوبات صرع، تُفقدها وعيها وتعرّضها للتكشّف أمام الناس، وهو ما كان يؤلمها نفسيًا أكثر من الألم الجسدي. وفي لحظة إيمانية نادرة، لجأت إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وطلبت منه أن يدعو الله لها بالشفاء.
خيّرها النبي بلطف ورحمة قائلاً: “إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوتُ الله أن يُعافيكِ.”
فقالت، في ردّ يُخلّدها بين المؤمنات: “أصبر يا رسول الله، ولكن ادعُ الله ألّا أتكشّف.”
فدعا لها النبي، فاستمرت تصاب بالصرع، لكن جسدها لم يكن ينكشف بعدها، كما روت السيدة عائشة رضي الله عنها.
الموقف يعكس إيمانًا راسخًا لا يتزعزع، وحرصًا شديدًا على الستر والحياء حتى في أقسى لحظات الضعف. كما يبرز رحمة النبي الكريم الذي لم يفرض عليها خيارًا، بل أعطاها الحق في اتخاذ القرار، فاختارت الصبر ورضيت بالبلاء في مقابل وعد بالجنة.
دروس خالدة
قصة أم زفر ليست مجرد واقعة في زمن مضى، بل هي درس خالد عن الصبر والحياء والرضا. تذكّرنا أن المرأة المسلمة في صدر الإسلام لم تكن تابعة فقط، بل كانت واعية، قوية، ومؤمنة، تعرف حقها وتُدرك قيمتها. وتُعلّمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قائدًا يتعامل مع أصحابه كأفراد ذوي مشاعر وكرامة، يستمع إليهم، ويمنحهم الخيار، ويراعي مشاعرهم حتى في أشد ظروفهم.
أم زفر لم تُعرف بين الصحابة بكثرة الحديث أو الظهور، لكنّها خُلّدت بموقف واحد أصبح من علامات السيرة النبوية، وشاهدًا على أن الإيمان يُقاس بالفعل، لا بالكلام