كيف تحقق التوازن في الإنفاق بين البخل والإسراف وفقًا للفتاوى الشرعية؟

حثت الشريعة الإسلامية على الاعتدال في كل جوانب الحياة، بما في ذلك الإنفاق. فالإسلام لا يرضى بالبخل، ولا يحب الإسراف، بل يدعونا لتحقيق التوازن والاعتدال في النفقات بما يحقق مصلحة الفرد والمجتمع. في هذا التقرير، نناقش ما حثت عليه الشريعة من الاعتدال في الإنفاق، وكيفية تجنب البخل والإسراف، استنادًا إلى فتاوى الأستاذ الدكتور شوقي إبراهيم علام، مفتي الجمهورية السابق، وتوجيهات دار الإفتاء المصرية.
الاعتدال في الإنفاق بين الشح والإسراف
الإنفاق في الإسلام ليس مجرد عملية مالية، بل هو أمر يتطلب حكمة ووعيًا من المسلم، حيث يُحث على التصدق والإحسان في كل مصارف الخير، وفي الوقت نفسه يُطلب منه أن يكون إنفاقه متوازنًا. قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ [البقرة: 143]، فالأمة الإسلامية مأمورة بالتوسط والاعتدال في جميع أمور حياتها، ومنها مسألة المال والإنفاق.
وفي الآية الكريمة: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا﴾ [الإسراء: 29]، تحذرنا الشريعة من أن نكون متطرفين في الإنفاق، فلا نبخل ولا نغرق في الإسراف. فقد بين الإمام الزمخشري في تفسيره أن هذه الآية دعوة للاقتصاد والتوازن بين الشح والإسراف، حيث أن كل تطرف يؤدي إلى اللوم في الدنيا والآخرة.
أفضل الصدقة وفقًا للحديث النبوي
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ ظَهْرِ غِنًى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» (متفق عليه). وفي هذا الحديث، يُرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الصدقة يجب أن تأتي بعد أن يكون الفرد قد أغنى نفسه وأسرته. فلا يجوز للفرد أن يُفقر نفسه أو عائلته على حساب الآخرين، بل يجب أن يبدأ بنفقة من يعول ثم بعد ذلك ينفق على الآخرين حسب استطاعته.
التوازن في الإنفاق الفضيلة بين الإسراف والتقتير
الاعتدال في الإنفاق ليس مقتصرًا فقط على التصدق، بل يمتد إلى جميع جوانب الحياة المالية. قال الإمام الرازي في "مفاتيح الغيب": "الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط"، فالإنفاق المفرط هو التبذير، والإنفاق القليل جدًا هو التقتير. وبين هذين الطرفين يكمن التوازن، الذي هو جوهر الفضيلة والعدالة في الشريعة الإسلامية. لذلك، يجب أن يسعى المسلم لتحقيق توازن بين ما ينفقه على نفسه ومن يعول وبين ما يتصدق به في سبيل الله.
الإنفاق في سبيل الله الأولوية لاحتياجات الأسرة
في إطار الاعتدال في الإنفاق، أشار الحافظ ابن الجوزي إلى أن الصدقة تكون أفضل بعد إغناء الأهل. فإغناء النفس والأهل قبل أن ينفق الإنسان في النوافل هو ما يقرره الإسلام، حيث يجب أن يبدأ الإنسان بمن يعول، ثم ينتقل إلى الإنفاق في الخير بعد تحقيق الاحتياجات الضرورية.
حكم الزكاة والإنفاق على الفقراء
فيما يتعلق بالزكاة، يُحدد الشرع حدًا أدنى لنصاب الزكاة وهو خمسة وثمانين جرامًا من الذهب عيار 21. وهذه الزكاة لا تفرض إلا إذا بلغ المال هذا الحد، مما يتفق مع قاعدة تقديم حق النفس وحق العائلة على حق الآخرين.
وقد امتدح الله تعالى الذين يساهمون في النفع المجتمعي، وأثنى عليهم في قوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ [الحشر: 9].
أفضل الصدقة جهد المقل
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «جَهْدُ الْمُقِلِّ» أي الفقير هو أفضل الصدقة. وهذا يعني أن الصدقة التي تأتي من شخص فقير، ولكنها تأتي حسب استطاعته، هي الأفضل عند الله. وهذه دعوة للإحسان في أوقات الشدة وعدم الإحجام عن التصدق.
في الختام، نجد أن الاعتدال في الإنفاق هو أساس من أسس الشريعة الإسلامية، وهو ما دعونا إليه من خلال فتاوى علماء الشريعة مثل الأستاذ الدكتور شوقي إبراهيم علام، مفتي الجمهورية السابق، ودار الإفتاء المصرية. يجب أن يسعى المسلم لتحقيق التوازن بين تلبية احتياجاته الشخصية، واحتياجات من يعول، وبين إسهاماته في الخير والصدقة. فالإسلام لا يرضى بالبخل ولا الإسراف، بل يحث على الوسطية التي تحقق خير الفرد والمجتمع.