لسان الدين ابن الخطيب.. شاعر الأندلس وفيلسوفها الذي خنقته السياسة

في ذاكرة الأندلس يلمع اسم أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن سعيد السلماني الخطيب، المعروف بـلسان الدين ابن الخطيب، كأحد ألمع أعلام الحضارة الإسلامية في القرن الثامن الهجري، حيث جمع بين الأدب والسياسة، بين الفقه والطب، وبين الفلسفة والتاريخ، في شخصية استثنائية أطلقت عليها الألقاب: ذو الوزارتين وذو العمرين وذو الميتتين.
نشأة علمية.. ومكانة نادرة
ولد ابن الخطيب سنة 713هـ / 1313م في بلدة لوشة بالأندلس، وسط أسرة عُرفت بالعلم والفضل، فكان جده خطيبًا ومُعلّمًا، ومنها استقى لقبه. انتقلت العائلة إلى غرناطة، وهناك بزغ نجمه طالب علم نابغ، فدرس القرآن واللغة والفقه، ثم اتجه إلى جامعة القرويين بفاس ليواصل دراساته في الطب والفلسفة.
وبفضل ذكائه وثقافته الواسعة، شقّ طريقه سريعًا إلى دوائر الحكم، فعُيّن وزيرًا للسلطان محمد الخامس ابن الأحمر، وحاز ثقته، ليُصبح أحد أعمدة الدولة النصرية.
شاعر القصر.. وفيلسوف السياسة
إلى جانب منصبه الوزاري، كان ابن الخطيب شاعرًا بليغًا وأديبًا مرهفًا. ما تزال قصيدته الشهيرة "جادك الغيث إذا الغيث همى" تصدح في أروقة قصر الحمراء، منقوشة على جدرانه، شاهدة على عصر كان فيه الأدب والسياسة وجهين لعملة واحدة.
كما كتب في التاريخ والجغرافيا والفكر السياسي، ومن أبرز مؤلفاته: الإحاطة في أخبار غرناطة-اللمحة البدرية في الدولة النصرية-روضة التعريف بالحب الشريف-نفاضة الجراب-معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار-و بلغت مؤلفاته ما يزيد عن 60 عملًا بين مطبوع ومخطوط، شملت الأدب، الطب، الموسيقى، النبات، التصوف، الفلسفة، والسياسة.
خيانة السياسة.. ومأساة النهاية
لكن بقدر ما ارتفعت منزلته، ازدادت حوله المكائد. لم ترُق مكانته للخصوم في البلاط، ولا حتى لصديقه القديم عبد الرحمن بن خلدون، الذي توترت علاقته به في أواخر حياته. ومع تصاعد الصراعات بين بلاط غرناطة والدولة المرينية في المغرب، وقع ابن الخطيب ضحية لعبة سياسية معقدة.
في عام 773 هـ لجأ ابن الخطيب إلى فاس تحت حماية السلطان المريني أبي فارس عبد العزيز، بعد اتهامات خطيرة وجهت إليه في غرناطة بالإلحاد والطعن في الشريعة، استنادًا إلى كتاباته الصوفية والفلسفية. ورغم حمايته، فإن وفاة السلطان المريني تركته مكشوفًا لأعدائه.
بتحريض من غرمائه، وخاصة الوزير ابن زمرك، وتحت ضغط غرناطة، اعتُقل ابن الخطيب، وبتهم الزندقة، أُحرقت كتبه، وصودرت أملاكه، وانتهى به المطاف مقتولًا خنقًا في زنزانته عام 776 هـ / 1374م. جثته أُحرقت، ثم أعيد دفنها في باب المحروق بفاس. وأجمع المؤرخون، ومنهم ابن خلدون، على أن الرجل قُتل ظلمًا بسعاية أعدائه.
إرث خالد رغم المؤامرات
رغم نهايته المأساوية، بقي لسان الدين ابن الخطيب أيقونة فكرية وأدبية في التراث الأندلسي، ورمزًا لزمن ازدهرت فيه الثقافة تحت ظلال السياسة. وما تزال مؤلفاته تُقرأ وتُدرس، شاهدة على عبقرية رجل سبق عصره، ودفع ثمن تفرده.