عاجل

منعٌ لعبادة متوارثة.. كيف أرخ الصوفية لقرار وقف كسوة الكعبة والمحمل الشريف؟

كسوة الكعبة
كسوة الكعبة

في الوجدان الصوفي، لم تكن كسوة الكعبة مجرد ثوبٍ أسود مُطرز، بل كانت تجليًا حيًا لعلاقة روحية بين مصر وبيت الله، علاقة نسجتها أيادي المحبين ودعوات الدراويش وزفرات الأولياء. منذ أن عهد المماليك إلى مصر بمهمة صناعة الكسوة، تحولت الزوايا والطرقات الصوفية إلى محاريب لصلاة تتجه جنوبًا، نحو الحرم، لا بالقبلة فحسب، بل بالقلب والدمع والحرير.

رحلة المحمل الشريف من مصر إلى الحجاز

يقول الباحث مصطفى زايد: كان المحمل الشريف، الموكب الذي يحمل الكسوة من مصر إلى الحجاز، يخرج من قلب القاهرة، تعلوه الرايات، وتحف به الطرق الصوفية، يتقدمه مشايخ البدوي والدسوقي والشاذلي والرفاعي، وينشد فيه المريدون: "يا كعبة الله، خذي سلامنا"، كما وصف الجبرتي في عجائب الآثار.

وعندما قررت المملكة العربية السعودية عام ١٣٨١هـ / ١٩٦٢م التوقف عن استقبال الكسوة المصرية، لم يكن وقع القرار على الصوفية إلا كوقع سهمٍ على قلب عاشق. ورغم أن التبرير الرسمي كان وجود أخطاء في الخط أو رغبة في التجديد، إلا أن تقرير أمني أثبت أن الدافع الأساسي كان سياسيًا بحتًا، بسبب الخلاف الناشب آنذاك بين القاهرة والرياض على خلفية الثورة اليمنية.

لم يكن الرد من مشايخ الصوفية رسميًا ولا سياسيًا، بل كان احتجاجًا شعبيًا صوفيًا، خرج من حضرات الذكر إلى ساحات الموالد. ففي عام ١٩٦٣م، أثناء مولد سيدي أحمد البدوي في طنطا، خرج الآلاف من المريدين في مظاهرة روحية، هتفوا فيها "يا رسول الله، كسوتك في خطر"، ورفعوا كسوة قديمة مهداة من أحد أشراف الحجاز، وأودعوها الضريح كرمز رمزي. وتوثّق هذه الواقعة نسخة محفوظة من سجلات الطريقة الأحمدية في جامع السيد البدوي.

وفي القاهرة، ألقى الشيخ عبد الهادي القناوي، أحد مشايخ الطريقة القناوية، خطبة الجمعة في مسجد السيوطي بحي الخليفة، قال فيها: "إن كانت الكسوة بدعة كما يزعمون، فلِمَ يُكسى البيت أصلًا؟ أولم تكن يد مصر هي التي غزلت له ثيابه سبعة قرون متوالية؟" وقد نقل نص الخطبة كما دوّنه أحد المريدين.

أما الشيخ محمد أبو العيون، أحد أقطاب الطريقة الحنيفية، فقد أصدر فتوى مطولة قال فيها إن منع الكسوة المصرية دون ذنب هو "منعٌ لعبادة متوارثة، وصدٌّ عن سبيل الله، وظلمٌ للقلوب التي تخدم البيت لا بثمن بل بنذر".

لم تقف ردود الأفعال عند حدود التذكير، بل تجاوزتها إلى السعي المؤسسي. فقد نقلت وثيقة محفوظة في دار الإفتاء المصرية أن شيخ الأزهر محمود شلتوت، بعد ضغط من كبار مشايخ الطرق، وجّه خطابًا رسميًا إلى الديوان الملكي السعودي، جاء فيه: "إن الكسوة المصرية لم تكن يومًا صنيعة حاكم، بل صنعة أمة، ووقفًا مقدسًا أهدته مصر للحرمين باسم جميع محبي الله ورسوله".

وفي بعض الزوايا الصوفية، ظهر احتجاج رمزي يتمثل في تعليق الكسوة القديمة على جدران الزوايا، ورفض لمس الكسوة الجديدة المصنوعة في السعودية، كما نقل الرحالة محمد عبد الغني حسن في كتابه "رحلة الحج في العصر الحديث"، حيث التقى بمريدين في مكة رفضوا لمس الأستار الجديدة وقالوا إنها "خالية من الدمع المصري" .

أما الطريقة الشاذلية، فقد أعادت طباعة جزء من كتاب "المنح القدوسية" لابن عطاء الله السكندري، وأبرزت فيه نصًا يؤكد أن أول من ألبس الكعبة كسوة من بيت المال كان عمر بن الخطاب من مال مصر.

ولم تخلُ هذه اللحظة من محاولات صوفية للمقاطعة الرمزية، إذ دعا الشيخ زكريا البري، من مشايخ الطريقة البرهامية، إلى تعليق أداء الحج كاحتجاج مؤقت "حتى تعود الكسوة إلى حضنها"، كما نشر في رسالة قصيرة بخط اليد عُثر عليها في أرشيف الطريقة البرهامية.

ومع مرور الوقت، ومع تراجع الحماسة السياسية من جهة الدولة، تراجعت الأصوات، وظل الصوفيون وحدهم يحتفظون بذكراها، يقرأون في حضراتهم أدعية قديمة كانت تُتلى عند نسج الكسوة، كما ورد في مخطوطة "التحفة البهية في تاريخ الكسوة المصرية" للشيخ أحمد بن محمد القناوي، والمحفوظة بمكتبة الأزهر تحت رقم، وفيها نص دعاء يُقرأ بعد كل خياطة: "اللهم اجعل هذا الثوب رحمة للمسلمين وسترًا لأسرار البيت، كما سترت وجوه المحبين عن أعين الحساد".

اليوم، تُعرض أجزاء من الكسوة المصرية في متحف الأزهر ومتحف النسيج بشارع المعز، لا كأثر فني، بل كذاكرة حية لزمنٍ غزلت فيه القلوب قماشها، ولبست الكعبة حبًا لا سياسة. قال الشيخ عبد الرحيم القناوي في مذكراته سنة ١٩٧٠م: "لقد دافعنا عن الكسوة، لا لأنها قماش، بل لأنها كانت دماء أجدادنا على أستار الكعبة".

لم تخسر الصوفية الكسوة فقط، بل خسر العالم الإسلامي واحدًا من أجمل طقوسه: أن تسير الكسوة من نيل مصر إلى قلب مكة، وتسبقها دعوات الأولياء. لم يكن القماش وحده يُرسل، بل كان يُبعث معهم وطنٌ كامل.

تم نسخ الرابط