أم كلثوم بنت عقبة.. أول مهاجرة إلى المدينة من النساء بعد صلح الحديبية

في واحدة من الصفحات المضيئة في تاريخ الإسلام، تُسطّر السيدة أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط اسمها كأول امرأة هاجرت من مكة إلى المدينة المنورة بعد صلح الحديبية، مثبتة بذلك شجاعتها وإيمانها القوي، متحدّية قيود المجتمع الجاهلي وروابط الأسرة الوثنية، لتلتحق بركب الإيمان والحق في دار الهجرة.
من هي أم كلثوم بنت عقبة؟
أم كلثوم هي بنت عقبة بن أبي معيط، أحد ألد أعداء الإسلام في مكة، وقد قُتل كافرًا في غزوة بدر. ورغم نشأتها في بيت يعادي الإسلام، إلا أن نور الإيمان تسلل إلى قلبها مبكرًا، فأسلمت قبل الهجرة، لكنها لم تستطع مغادرة مكة آنذاك خوفًا من بطش أهلها، حتى جاء صلح الحديبية بين النبي ﷺ وقريش، الذي نصّ في أحد بنوده على أن “من جاء محمدًا من قريش مسلمًا ردّه إليهم”.
ورغم هذا الشرط الذي كان يبدو أنه يقيّد حرية المسلمين، اتخذت أم كلثوم قرارًا شجاعًا بالفرار إلى المدينة، بعد أن ضاقت بها مكة وسُدّت أمامها السُبل، فخرجت مهاجرة وحدها، دون مَحْرم، مخاطرة بكل شيء، في وقتٍ لم يكن فيه هذا مقبولًا اجتماعيًّا ولا مأمون العاقبة.
موقف النبي ﷺ وتشريع قرآني خاص
عندما وصلت أم كلثوم إلى المدينة، لجأ أهلها إلى النبي ﷺ مطالبين بإرجاعها إلى مكة، تطبيقًا لبنود صلح الحديبية، لكنه رفض ذلك، لأن البند كان خاصًّا بالرجال، ولم يُذكر فيه النساء.
فنزل قول الله تعالى مؤيدًا هذا الموقف ومثبتًا حرية المرأة في اختيار الدين:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ۖ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ ۖ… فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10].
وبهذا، أصبحت الهجرة النسائية المشروعة إلى المدينة مؤيدة بنص قرآني، وكانت أم كلثوم أول من نالت هذا الشرف العظيم.
درس في الإيمان والثبات
مثّلت هجرة أم كلثوم موقفًا فارقًا، ليس فقط في سياق الهجرة النسائية، بل في التأكيد على قدرة المرأة المسلمة على اتخاذ قرارات مصيرية في حياتها، متجردة من التبعية، ومقدمة إيمانها على كل شيء.
ويعلق العلماء على هذه الحادثة بقولهم إن أم كلثوم ضربت مثالًا حيًّا على أن الهجرة ليست مجرد انتقال جغرافي، بل هي انتقال روحي من حياة الضيق إلى حياة الطمأنينة تحت راية التوحيد.
منارة للنساء في كل العصور
وتبقى قصة أم كلثوم بنت عقبة مصدر إلهام للنساء المسلمات في كل زمان ومكان، فالإسلام كرّم المرأة وجعل لها الإرادة والاستقلال في القرار، خاصة في ما يتعلق بعقيدتها ومصيرها الأخروي.
إنها ليست فقط أول امرأة هاجرت من مكة للمدينة بعد صلح الحديبية، بل كانت أول من سنّ سنة حسنة في مسار الهجرة النسائية، فخلّد التاريخ اسمها ورفع الإسلام قدرها، لأنها آثرت الله ورسوله على كل ما سواهما