عاجل

استثمار الانشقاقات: مستقبل الصراع بين “داعش” و”هيئة تحرير الشام”

الجماعات في سوريا
الجماعات في سوريا

أعادت الأخبار المتداولة حول تعيين تنظيم “داعش” لـ”أبي دجانة الجبوري” واليًا على حلب، تسليط الضوء على طبيعة العلاقة التي تجمع بين تنظيم “داعش” و”هيئة تحرير الشام”، لا سيما وأن “الجبوري” كان قياديًا سابقًا في “جبهة النصرة” (النسخة الأولى من هيئة تحرير الشام) قبل انشقاقه عنها وانضمامه لتنظيم “داعش” في 2014، وبالتالي يحمل هذا التعيين رسائل متعددة من قبل تنظيم “داعش” على رأسها استمرار الصراع مع “هيئة تحرير الشام”؛ مما يستدعي تفكيك تلك العلاقة المتشابكة التي تجمع بينهما، ومحاولة استشراف تحركات تنظيم “داعش” المستقبلية تجاهها.

العلاقة بين “داعش” و”هيئة تحرير الشام”

ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، تعود جذور الصراع بين “داعش” و”هيئة تحرير الشام”، إلى عام 2014، وذلك على خلفية الانفصال التنظيمي بينهما بعد رفض “جبهة النصرة” بقيادة “محمد الجولاني/ أحمد الشرع” مبايعة تنظيم “داعش”، في حين تعهد بالبيعة لــ “أيمن الظواهري” (زعيم تنظيم القاعدة السابق)؛ مما أسفر عن سلسلة من المواجهات الدامية بينهما في سوريا، استمرت حتى عام 2017، لا سيما مع رغبة تنظيم “داعش” في مدّ نفوذه في مناطق سورية تسيطر عليها “جبهة النصرة” والمليشيات المسلحة المتحالفة معها.

ومع تحول “جبهة النصرة” إلى “هيئة تحرير الشام” في يوليو 2017، وتبنيها مشروعًا محليًا براجماتيًا، لجأت إلى النهج القانوني في التعامل مع خلايا “داعش” بهدف تقديم نفسها كحكومة محلية لديها أجندة متعلقة بمكافحة الإرهاب؛ إذ أعلنت “هيئة تحرير الشام” في الفترة من يوليو2017 حتى يناير 2023 عن تنفيذها 59 عملية اعتقال لأعضاء خلايا تنظيم “داعش” في 36 بلدة وقرية في جميع انحاء إدلب، وبين هذه العمليات الـ 59، تم تنفيذ (5( عمليات في عام 2017، و(22) في عام 2018، و(8) في عام 2019، و(8) في عام 2020، و(10) في عام 2021، و(5( في عام 2022.

ومع صعود “هيئة تحرير الشام ” إلى الحكم في نهاية 2024، سعى تنظيم “داعش” إلى استهدافها إعلاميًا؛ إذ أشارت افتتاحية العدد (473) من صحيفة النبأ التابعة لــــ”داعش” الصادرة في 12 ديسمبر 2024، والتي جاءت بعنوان “تدجين وتجنيد”، إلى حصول “هيئة تحرير الشام” على الدعم الدولي من أجل محاربة تنظيم “داعش”. وأوضحت الافتتاحية أن ما حدث في سوريا هي عملية إبدال مدروسة لنظام “الأسد” بنظام يحارب الشرع بـــــ”الشرع” وفقًا لما أفادت به الصحيفة.

ثم سلطت افتتاحية العدد (486) من صحيفة النبأ الصادرة في 14 مارس 2025، التي جاءت بعنوان “نسف الأقلية والطائفية” الضوء على أحداث الساحل السوري، موضحة أن “أوهام” التعايش في سوريا “فشلت في الاختبار الأول”؛ مشيرة إلى أن الرئيس الانتقالي “أحمد الشرع” ما هو إلا “دمية” يتم تحركيها بغية الانتهاء من خطة تقسيم المنطقة.

وبعد ذلك جاءت افتتاحية العدد (495) من صحيفة النبأ الصادرة في 15 مايو 2025، بعنوان “على عتبة ترامب” ووصفت”الشرع”، بأنه “خائن للقضية” و”تذلل” أمام الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، كما دعت المقاتلين الأجانب في سوريا إلى الانشقاق عن الحكومة السورية الحالية والانضمام إلى “داعش”. ومن ثَمّ تقدم تلك المعطيات الملامح الأساسية للعلاقة بين “داعش” و”هيئة تحرير الشام” القائمة على العداء العقائدي والتنافس العملياتي.

اتجاهات مستقبلية

في ضوء ما تقدم، ثمة تحركات مستقبلية محتملة من قبل تنظيم “داعش” تجاه “هيئة تحرير الشام”، ويمكن استعراضها على النحو التالي:

الاستثمار في الانشقاقات: يحمل تعيين “أبي دجانة الجبوري” من قبل تنظيم “داعش” واليًا على حلب دلالة رمزية متعلقة بسعي التنظيم إلى استقطاب الكوادر المنشقة عن “هيئة تحرير الشام”، وتعيينهم في مناصب قيادية. وبصفة عامة تشهد “هيئة تحرير الشام” في الوقت الحالي عددًا من الانشقاقات أبرزها: انشقاق “كتيبة سيف البحر” في يناير2025؛ إذ أعلنت على لسان متحدثها الرسمي “أبي خالد الشامي” أن دوافع الانشقاق ترجع إلى قيام “الشرع” بتجريد “هيئة تحرير الشام” من “طابعها الإسلامي”. كذلك تنظيم “سرايا أنصار السنة” الذي تأسس في فبراير 2025 في سوريا تحت قيادة “أبي عائشة الشامي” بعد انشقاقه عن “هيئة تحرير الشام” على خلفية قناعته بأنها متساهلة تجاه الشيعة والعلويين.

وبالتالي يعمل تنظيم “داعش” على اجتذاب عناصر “هيئة تحرير الشام” الرافضة لتحركاتها البرجماتية، فضلًا عن تحريضه للمقاتلين الأجانب للانشقاق عبر تغذية مخاوفهم من أن تؤدي التفاعلات الدولية بين الحكومة السورية الانتقالية والمجتمع الدولي إلى اعتقالهم وترحيلهم. وفي ضوء تلك المعطيات، صرح “توماس باراك” (المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا) لرويترز في 2 يونيو 2025، أن الولايات المتحدة توصلت إلى “تفاهم” بأن وزارة الدفاع السورية ستدمج المقاتلين الأجانب في صفوف الجيش السوري الجديد، وذلك لمنعهم من الانضمام إلى التنظيمات الإرهابية في سوريا، وعلى الرغم من قناعة الإدارة السورية الجديدة بأن دمج هؤلاء المقاتلين في الجيش السوري يقلل من خطر انضمامهم إلى التنظيمات المتطرفة، فإن عملية الدمج هذه تحمل جملة من التحديات الأمنية والأيديولوجية والثقافية، التي من المرجح أن تظهر ارتداداتها على المدى الطويل.

تصعيد تكتيكي: من المحتمل أن يتجه تنظيم “داعش” إلى التصعيد التكتيكي المحدود تجاه “هيئة تحرير الشام” بهدف تأكيد نفوذه في الساحة السورية وتقديم نفسه كفاعل ذي تأثير، وذلك عبر تنفيذ عمليات اغتيال أو تفجيرات تستهدف الثانية، وبالفعل نفذ التنظيم هجومين في أواخر مايو 2025 بالعبوات الناسفة مستهدفًا بهما مركبات تابعة لوزارة الدفاع السورية في هجمات منفصلة بمحافظة السويداء الشرقية يومي 22 و28 مايو 2025، وتُعد هجمات العبوات الناسفة هذه أول هجمات يتبناها تنظيم “داعش” في جنوب سوريا منذ عام 2023، وأول هجمات يتبناها داعش ضد الحكومة الانتقالية السورية.

وبصفة عامة، زاد التنظيم من نشاطه في سوريا في مايو 2025، إذ صرح المتحدث باسم وزارة الداخلية السورية “نور الدين البابا” في 26 مايو 2025، أن نشاط “داعش” قد ارتفع بشكل حاد في الفترة التي تلت سقوط نظام الأسد بسبب استيلائه على مخزونات أسلحة نظام “الأسد” السابق؛ مما يدل على أن التنظيم لديه القدرة على إعادة بناء وتسليح الخلايا التابعة له حتى في المناطق الخاضعة حاليًا لسيطرة الحكومة الانتقالية في غرب سوريا. كما طور التنظيم مؤخرًا القدرة على شن هجمات في وادي نهر الفرات الأوسط باستخدام أجهزة متفجرة بدائية محمولة على مركبات.

وعلى صعيد متصل، أعلنت وزارة الداخلية السورية في 26 مايو 2025 تنفيذ عملية أمنية أسفرت عن ضبط عناصر من خلايا تابعة لتنظيم “داعش” قرب دمشق، قالت إنها كانت تخطط لـ”زعزعة الأمن والاستقرار”، كذلك أعلن جهاز الاستخبارات العامة في سوريا في 11 يناير 2025 عن إحباطه محاولة تفجير حاول تنظيم “داعش” تنفيذها داخل مقام السيدة زينب جنوب دمشق.

وعلى الرغم من تلك المؤشرات التي تقدم تصورًا عن رغبة التنظيم في توسيع نفوذه في الساحة السورية، فإن من المستبعد أن يدخل في مواجهة مفتوحة مع “هيئة تحرير الشام ” في ضوء قدراته البشرية الحالية؛ إذ تتراوح أعداد عناصره في العراق وسوريا ما بين 1500 إلى 3000 عنصر طبقًا لتقديرات أممية حديثة، فضلًا عن الضغوط الأمنية التي يتعرض لها من قبل التحالف الدولي وقوات سوريا الديمقراطية، في المقابل تركز “هيئة تحرير الشام” في الوقت الحالي على تعزيز شرعيتها وتحشد جهودها لمواجهة الفلول التابعة للنظام السابق؛ الأمر الذي يجعل كلًا منهما يحرص على مواجهات محدودة. لكن على المدى المتوسط والطويل، إذ استطاع تنظيم “داعش” تعزيز قدراته البشرية عبر تهريب عناصره من السجون والمخيمات، فليس من المستبعد أن يتوسع في نشاطه تجاه “هيئة تحرير الشام”.

مجمل القول، تشير المعطيات الحالية إلى أن مستقبل الصراع بين تنظيم “داعش” و”هيئة تحرير الشام” مرشح للاستمرار في سياق محدود، دون أن يتحول إلى مواجهة شاملة في المدى القريب، لا سيما مع التحديات التي يمر بها كل منها، لكن قد يحمل المستقبل صدامات مفتوحة بينهما في حال حدوث تغيرات في موازين القوى.

تم نسخ الرابط