ما الحكمة من كون السعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط؟ دار الإفتاء توضح

في الوقت الذي يستعد فيه آلاف الحجاج والمعتمرين لأداء العمرة أو الحج مناسك، يعود سؤال قديم متجدد إلى الواجهة: ما سر عدد الأشواط السبعة في السعي بين الصفا والمروة؟ هل هو محض تحديد عددي أم يحمل في طياته دلالات إيمانية وتاريخية.
وأجابت دار الإفتاء في هذه المسألة:
الحكمة من تحديد السعي بين الصفا والمروة بسبعة أشواط غير معقولة المعنى، وهو ما يُعَبِّرُ عنه العلماء بأنَّها تعبدية، والأمور غير معقولة المعنى والمحددة من الشرع لا يتحقق الامتثال فيها إلا بالإتيان بها على الشكل الذي حدده الشرع الشريف، فلا يجوز الزيادة عليه ولا النقصان منه.
مفهوم السعي بين الصفا والمروة
السعي لغةً: المشيُ والعَدْوُ مِن غيرِ شَدٍّ؛ قال العلامة الزبيدي في "تاج العروس"[(سَعَى) الرجُلُ (يسعَى سَعْيًا، كرَعَى) يَرعَى رَعْيًا: إذا (قَصَدَ).. (و) سَعَى لهم وعليهم: (عَمِلَ) لهم فكَسَبَ. (و) سَعَى: إذا (مَشَى)، زاد الراغبُ: بسرعةٍ. ومنه: أُخِذَ السعي بين الصفا والمروة. (و) سَعَى: إذا (عَدَا)، وهو دون الشَّدِّ وفوق المشي] اهـ.
والسعي شرعًا: المشي بين جبلي الصفا والمروة سبعةَ أشواطٍ بعد طوافٍ في نُسُكِ حجٍّ أو عُمرةٍ؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 158].
الحكمة من تحديد السعي بين الصفا والمروة بسبعة أشواط
أمَّا علة السعي بين الصفا والمروة وكونه مُحدَّدًا بسبعة أشواط، فإن هذا من الأحكام غير معقولة المعنى، والتي يُعَبِّر عنها الأصوليون بالتعبدية؛ فالسعي ثبتت مشروعيته بأمر الله سبحانه وتعالى؛ كما في الآية السابقة.
وثبت أيضًا بفعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فقد أخرج الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: "قَدِمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا، حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ".
وأخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "رَأَيْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ، وَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ".
وأصل مشروعيته: ما أخرجه الإمام البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، أنه قال: "وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ المَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى، أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ سَعْيَ الإِنْسَانِ المَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ المَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَ أَحَدًا، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا».
فوجه الدلالة من هذا في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا» أي: بين الصفا والمروة. ينظر: "شرح صحيح البخاري" للعلامة القسطلاني (5/ 345، ط. الأميرية).
والحكمة من ذلك
السعي بين الصفا والمروة من الأحكام المقيدة بعدد من الأعداد؛ وهو سبعة أشواطٍ، وهذا من الأحكام غير المعللة بعلةٍ ظاهرةٍ منصوص عليها، وقد حاول الإمام الشاطبي أن يقدِّم لنا ضابطًا لهذا الباب من الأفعال؛ فقال في "الموافقات: [كلُّ دليلٍ شرعي ثبت في الكتاب مطلقًا غير مقيد ولم يُجْعَل له قانون ولا ضابط مخصوص، فهو راجع إلى معنى معقول وُكِّلَ إلى نظر المكلف، وهذا القسم أكثر ما تجده في الأمور العادية التي هي معقولة المعنى؛ كالعدل والإحسان والعفو والصبر والشكر في المأمورات، والظلم والفحشاء والمنكر والبغي، ونقض العهد في المنهيات، وكل دليل ثبت فيها مقيَّدًا غير مطلق وجُعل له قانون وضابط فهو راجع إلى معنى تعبدي، لا يهتدي إليه نظر المكلف لو وُكل إلى نظره؛ إذ العبادات لا مجال للعقول في أصلها، فضلًا عن كيفياتها، وكذلك في العوارض الطارئة عليها؛ لأنها من جنسها، وأكثر ما يوجد في الأمور العبادية، وهذا القسم الثاني كثير في الأصول المدنية؛ لأنها في الغالب تقييدات لبعض ما تقدم إطلاقه، أو إنشاء أحكام واردات على أسباب جزئية] اهـ.
والمقصود بقول العلماء أن "الحكم المعين تعبدي": أي لا يظهر وجه الحكمة من تشريعه غير مجرد التعبُّد وإظهار الامتثال. وعدم اهتدائنا لمعنى التشريع إنما يعني خفاء الحكمة علينا فحسب، لا أن الحكم شُرع لا لحكمة، فكلُّ أمرٍ تعبدي؛ كما قال الإمام القرافي في "الفروق": [معناه: أن فيه معنًى لم نعلمه، لا أنه ليس فيه معنًى] اهـ.
وقال أيضًا (2/ 80): [لما كانت قاعدة الشرع رعاية المصالح في جانب الأوامر، والمفاسد في جانب النواهي على سبيل التفضل لا على سبيل الوجوب العقلي -كما تقوله المعتزلة- لزم أن نعتقد -فيما لم نطلع فيه على مفسدة ولا مصلحة إن كان في جانب الأوامر- أن فيه مصلحة، وإن كان في جانب النواهي أن فيه مفسدة، كأن نقول في أوقات الصلوات: إنها مشتملة على مصالح لا نعلمها، وكذلك كل تَعَبُّدِيٍّ معناه أن فيه مصلحة لا نعلمها] اهـ.
ومن ثمَّ، فإن تحديد الطواف والسعي ونحوها من الأفعال كعدد الركعات والمقادير.. ونحو ذلك إنما هي من الأمور التعبدية؛ فإن الأحكام التي خاطب الله عزَّ وجلَّ المكلفين بها على لسان الشرع تأتي على قسمين:
- قسم يُعرف بالأحكام المعللة أو معقولة المعنى، وهي الأحكام التي من شأنها أن يدركَ العقلُ لها حكمة أو علة موجبة للحكم؛ كما في حاشية العلامة الشرواني على "تحفة المحتاج" ، وحاشية العلامة الشبراملسي على "نهاية المحتاج"
- وقسم يعرف بالأحكام التعبدية، وهي -في اصطلاح الفقهاء والأصوليين-: الأحكام الشرعية التي لا يظهر للعباد في تشريعها حكمة فضلًا عن علة موجبة للحكم، غير مجرد التعبد، أي التكليف بها لاختبار عبودية العبد، فإن أطاع أثيب، وإن عصى عوقب.
الحكمة من مشروعية التعبد بالسعي بين الصفا والمروة
الحكمة من مشروعية التعبد بالسعي بين الصفا والمروة بشكل عام، فهو إقامة ذكر الله تعالى؛ فعن أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبِالصَّفَا وَالمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ، لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» أخرجه الإمام أحمد في "مسنده"، وأبو داود في "السنن"، والترمذي في "جامعه" وصحَّحه، وابن خزيمة في "صحيحه"، والحاكم في "المستدرك" وقال: صحيح الإسناد.