حكم مشاركة الكورسات التعليمية مع غير المشتركين.. الإفتاء تجيب

ما حكم مشاركة الكورسات التعليمية؟ سؤال يتردد بين طلاب المدارس والجامعات تزامنا مع انطلاق الدراسة وفي ظل ارتفاع تكلفة الكورسات التعليمية.
ومن جانبها، قالت دار الإفتاء إنه لا يجوز شرعًا لغير المشترك إشراك غيره معه في مشاهدة (الكورسات التعليمية) ما لم يأذن صاحبها فيها؛ لأنها من قبيل الحقوق الذهنية الثابتة لأصحابها شرعًا وعرفًا، فإن أذن صاحبها جاز وإلا فلا.
المحافظة على المال
حرص الإسلام على المحافظة على المال، وجعل ذلك من المقاصد الكلية العُليا التي جاءت الشريعة بتحقيقها وضرورة حفظها، وهي (الدِّين والنفس والعقل والعِرض أو النسل والمال)، وهي مقاصد جاءت بالمحافظة عليها كل الشرائع السماوية؛ كما في "الموافقات" للإمام الشاطبي.
ومن محاسن الشريعة أنها ارتقت بها من رتبة الحقوق إلى رتبة الواجبات؛ فلم تكتفِ بجعلها حقوقًا للإنسان حتى أوجبت عليه اتخاذ وسائل الحفاظ عليها.
حكم مشاركة الكورسات التعليمية
من المقرر شرعًا أنَّ كل ما له منفعة وقيمة فهو داخل في معنى المالية، كما نص عليه الفقهاء؛ قال الإمام الزَّرْكَشِي في "المنثور في القواعد الفقهية": [المالُ ما كان مُنتفعًا به أي مُستَعدًّا؛ لأن يُنْتَفع به وهو إمَّا أعيانٌ أو منافعُ] اهـ؛ فالمالية تشمل ما كان أعيانًا أو منافع أو حقوقًا.
قال العلامة ابن عابدين من الحنفية في حاشيته "رد المحتار" [المراد بالمال ما يميل إليه الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية تثبت بتمول الناس كافةً أو بعضهم، والتقوُّم يثبت بها بإباحة الانتفاع به شرعًا] اهـ.
وقال الإمام السيوطيّ في "الأشباه والنظائر: [خاتمةٌ في ضبط المال والمتموَّل: أما المال فقال الشافعي رضي الله عنه: لا يقع اسم (مال) إلا على ما له قيمة يباع بها، وتَلزَم مُتلِفَه، وإن قَلَّت، وما لا يَطَّرِحُه النّاسُ مثل الفَلس وما أشبه ذلك] اهـ.
وحقوق الملكية الفكرية والأدبية والفنية وبراءات الاختراع والأسماء والعلامات والتراخيص التجارية (والتي اصطُلِح على تسميتها بالحقوق الذهنية) هي من الحقوق الثابتة لأصحابها شرعًا وعرفًا، سواء أقلنا إنَّها من قبيل الأموال، أم قلنا إنَّها من قبيل المنافع التي تُعَدُّ أموالًا بورود العقد عليها مراعاةً للمصلحة العامة.
وكورسات الفوتوشوب -المسؤول عنها- يقصد بها المادة الصوتية أو المرئية التي يتعلم من خلالها الدارس العمل بتقنية الفوتوشوب أو ما يتعلق بها، وتُقدم هذه المادة أو تعرض عن طريق الحضور إلى قاعات التعليم المتخصصة في هذا النوع من الكورسات، أو عن طريق الوسائل الحديثة المختلفة، كالمنصات أو البرامج الإلكترونية، وذلك بعدة طرق مختلفة، منها: الدخول عبر رابط يرسله مُقدم الخدمة، أو السماح بالدخول على المنصة والتسجيل فيها، وغير ذلك.
ولما كانت هذه الكورسات من النتاج الفكري، الذي يُقطَع بمنفعته بحيث يحصل به الاختصاص الحاجز ويجري فيه التقويم والتداول عرفًا ويُتَّخَذُ محلًّا للتعامل والمعاوضة بين الناس، ويثبت فيه حق المطالبة القضائية في العُرف القانوني ولا معارض لذلك في الشرع، فإن هذا يجعل لمثل هذه الكورسات حكم المالية في تملك أصحابها لها واختصاصهم بها اختصاصًا يحجز غيرهم عن الانتفاع بها بدون إذنهم، وكان الحصول عليها مقيدًا بالطريقة التي يأذن فيها مُقدمها ويرضاها.
ولذلك: يجب على طالب الخدمة أن يتقيد بما يحدده مقدموها وأن يلتزم بشروطهم وضوابطهم، ولا يجوز له مشاركة غيره في مشاهدة تلك المادة إلا بإذنهم ورضاهم، وذلك للأدلة الآتية:
أولًا: قول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ» أخرجه الإمام البيهقي في "سننه".
فالجهود المضنية والأموال التي يبذلها مقدمو هذه الكورسات في سبيل التوصل إلى أبحاثهم وتوفير مصادرهم وتحصيل الخبرة اللازمة التي تؤهلهم لتقديمها تجعل من التعدي عليها واستعمالها من غير رضاهم أو بغير ما تم الاتفاق عليه أكلًا لحقوقهم وتضييعًا لجهدهم بالباطل وسببًا في إلحاق الضرر بهم، وهو ما نهى الشرع الشريف عنه، حيث يقول الله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ﴾ [النساء: 29]، ويقول سبحانه: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188].
قال الإمام القرطبي في "تفسيره" عند هذه الآية: [الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صلى الله عليه وسلم، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق.
فيدخل في هذا: القمارُ والخداعُ والغُصُوبُ وجحدُ الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حَرَّمَته الشريعةُ وإن طابت به نفسُ مالكه، كمَهر البَغِيِّ وحُلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك] اهـ.
ثانيًا: أن الطريقة التي تقدم بها هذه الكورسات من خلال إرسال رابط لشخص محدد هو المشترك فقط، يجعل من هذا التصرف معنى الشرط، وكأن مقدمي الخدمة والمشتركين اتفقوا على أنَّه لا يعمل بهذا الرابط إلا المشترك فقط، والأصل في العقود والاتفاقات بين الناس القائمة على التراضي والتوافق- الجواز والصحة، ما لم تحل حرامًا أو تحرم حلالًا، وأنها ملزمة لأطرافها، ليس لأحدهم أن يرجع فيها أو أن يعدلها من تلقاء نفسه، يدل عليه: الأمر المطلق بالوفاء بالعقود في قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، ومن الوفاء بالعقد والعهد: الوفاء بما اتفق عليه الأطراف من شروط، وعموم قوله صلى الله عليه وآله وسلم: «المسلمون على شروطهم» رواه الترمذي. فإن كلمة شروط نكرة مجموعة، وقد أُضيفت إلى الضمير الذي هو معرفة فتفيد العموم؛ أي: عند جميع شروطهم، والقاعدة أن العام يجري على عمومه حتى يأتي ما يخصصه.
وقال العلامة الخَطَّابي في "معالم السُّنن": [جماع هذا الباب أنْ يُنظر، فكلُّ شرط كان من مصلحة العَقد أو مِن مقتضاه، فهو جائز] .
ثالثًا: أن في مشاهدة الكورسات لغير المشتركين فيها بدون إذن مقدمها نوع غشٍّ، حيث إن صاحب هذه الكورسات قد أذن للمشترك فقط في المشاهدة والانتفاع بها، فإذن المشترك لغيره في المشاهدة معه دون إذن صاحبها إيهام غش له بأنَّ المشترك وحده هو المشاهد لهذه المادة دون غيره.
ومن المقرر شرعًا حرمة الغش مطلقًا؛ سواء كان في البيع أو غيره من المعاملات بين الناس، والذي يشتمل بطبيعة الحال على الخداع، وخيانة الأمانة، وتضييع حقوق الناس، فقد ورد فيما أخرجه الإمام مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا»، وعنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ -أي: كومة طعام- فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فقال: "مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟" قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ -أي المطر-، يَا رَسُولَ اللَّهِ! قال: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مني».
قال أبو عبيد القاسم بن سلام في "غريب الحديث": [وجهه عندي -والله أعلم- أنَّه أراد: ليس منا، أي: ليس هذا مِن أخلاقنا ولا مِن فعلنا، إنَّما نفى الغش أن يكون من أخلاق الأنبياء والصالحين، وهذا شبيه بالحديث الآخر: "يطبع المؤمن على كل شيء إلا الخيانة والكذب إنهما ليسا من أخلاق الإيمان"، وليس هو على معنى أنَّه مَن غَشَّ أو مَن كان خائنًا فليس بمؤمنٍ، ومثله كثير في الحديث] .
فهذا الوعيد الوارد في الحديث على عمومه؛ فيَدُل على تحريم الغش مطلقًا سواء كان الغش في البيع أو في غيره من المعاملات بين الناس؛ وهذا مما لا خلاف فيه؛ قال الإمام أبو الحسن المنوفي المالكي في "كفاية الطالب الرباني": [لا أعلم خلافًا في تَحَرُّجِ الغش، والخديعة، وما ذكره معهما؛ لأن هذه أمورٌ ممنوعةٌ في الشرع؛ لأنها ضربٌ من المكر، والحيل على النَّاس، والتَّوصُّل إلى أخذ أموالهم بغير حقٍّ].
رابعًا: أن الإذن للمشترك في المشاهدة من قبيل تمليك الانتفاع لا المنفعة، والفرق بينهما أنَّ مالك الانتفاعِ مأذون له في أن يَنْتَفِع بِنَفسه فقط، ومالِك المنفعةِ مأذون له في أن ينتفع بنفسه ويُمكِّن غيره منه أيضًا، وهو ما حرره الإمام القرافي في "الفروق" في قوله: [(الفرق الثلاثون بين قاعدة تمليك الانتفاع وبين قاعدة تمليك المنفعة) فتمليك الانتفاع نريد به أن يباشر هو بنفسه فقط، وتمليك المنفعة هو أعم وأشمل فيباشر بنفسه ويُمكِّن غيره من الانتفاع بعوض كالإجارة وبغير عوض كالعارية، مثال الأول سكنى المدارس والرباط والمجالس في الجوامع والمساجد والأسواق ومواضع النسك كالمطاف والمسعى ونحو ذلك فله أن ينتفع بنفسه فقط ولو حاول أن يؤاجر بيت المدرسة أو يُسكن غيره أو يعاوض عليه بطريق من طرق المعاوضات امتنع ذلك، وكذلك بقية النظائر المذكورة معه، وأما مالك المنفعة فكمن استأجر دارًا أو استعارها فله أن يؤاجرها من غيره أو يسكنه بغير عوض ويتصرف في هذه المنفعة تصرف الملاك في أملاكهم] . فهذا يفيد أنه لا يجوز للمشترك أن يأذن لغيره في مشاهدة الكورس إلا برضا مقدمه.