أرض المجددين| الإمام ابن دقيق العيد... العالِم المبعوثُ على رأس المائة السابعة

يواصل موقع «نيوز رووم»، نشر سلسلة «أرض المجددين»، والتي تتناول مجددو مصر عبر القرون الماضية، ضمن التعريف بهم وبجهودهم، حيث الإمام ابن دقيق العيد، فمن هو؟ ولماذا سمي بهذا الاسم؟
من هو ابن دقيق العيد؟
ابن دقيق العيد، ذلك الاسم الذي تردد في كتب التراجم والطبقات، ليس مجرد عالم تقليدي، بل إمام اجتمع فيه من علوم الحديث والفقه والأصول ما جعله مرجعًا للأمة في القرن السابع الهجري، فهو محمد بن علي بن وهب بن مطيع بن أبي الطاعة القشيري، القوصي المولد، المصري الدار، كنيته أبو الفتح، لكنه اشتهر بلقب جده "دقيق العيد".
وُلد في الخامس والعشرين من شعبان سنة 625هـ الموافق 1228م بمدينة قوص في صعيد مصر. حفظ القرآن صغيرًا، وطلب العلم منذ نعومة أظفاره، وتتلمذ على شيوخ كبار، منهم أبوه علي بن وهب، والحافظ عبد العظيم المنذري صاحب "الترغيب والترهيب"، كما أخذ عن أبي الحسن المقدسي، وابن أبي الحسن الصريفيني، وسمع من علماء مصر والإسكندرية في رحلاته العلمية.
نشأ في بيت علم وورع، فأبوه كان فقيهًا محدثًا، وجده عالمًا جليلًا. كان رحمه الله، شاعرًا، أديبًا، فقيهًا، أصوليًّا، محدِّثًا، وارتحل في طلب العلم داخلَ مصر ثم رحل إلى الشام، واستمع لكثير من العلماء في البلاد التي رحل إليها؛ فبرع في كل علم حصَّله؛ حتى فاق علماءَ عصره، وشهدوا له بالعلم والورع والأخلاق.
اجتمع فيه علم الحديث رواية ودراية، فكان حافظًا ناقدًا بصيرًا بعلل الحديث ورجاله، ومن أعظم آثاره كتابه "الإلمام بأحاديث الأحكام" الذي جمع فيه الأحاديث الفقهية مع التحقيق والتدقيق. كما كان فقيهًا متبحرًا في المذهب الشافعي، مجتهدًا لا يقتصر على تقليد، حتى بلغ رتبة الاجتهاد المطلق.
مذهب ابن دقيق العيد
تمذهب ابنُ دقيق العيد بمذهب الإمام مالك، فأتقن أصوله وفروعه في بلدته قوص، حتى صار شيخًا كبيرًا يُرجَع إليه في المذهب، ثم توجّه لدراسة المذهب الشافعي، فحصَّل فيه الغاية في النقل، والرواية، والتأصيل؛ حتى قصده الطلاب من كل مكان لينهلوا من علومه.
وكان من أجلِّ شيوخه: العزّ بنُ عبد السلام الذي كان له دور عظيم في تكوين شخصيته العلمية، حتى وصل إلى رتبة الاجتهاد، وصار مجلسُه مقصدَ طلاب العلم في زمانه.
مصنفاته
للشيخ رحمه الله تصانيفُ كثيرةٌ، أبرزُها: كتاب إحكام الأحكام، وكتاب الاقتراح في بيان الاصطلاح: وهو كتابٌ في علم مصطلح الحديث ، وتحفة اللبيب في شرح التقريب، وهو: شرحٌ لمتن القاضي أبي شجاع الشافعي.
قالوا عنه
شهد له العلماء بعلوّ قدره. قال عنه الذهبي: "شيخ الإسلام، وإمام الأئمة، علامة الوقت... بلغ رتبة الاجتهاد وكان بحرًا لا يجارى". وقال السبكي: "إمام عظيم، جمع بين الحديث والفقه، وأتقن الأصول واللغة". أما ابن حجر فقال: "كان من الأئمة المجتهدين، ينتقي من المذاهب، وكان آية في الفهم".
وقال الشيخ تاج الدين السبكيّ: «ولم أر أحدًا من أشياخنا يختلفُ في أنّ ابنَ دقيقِ العيد هو العالِم المبعوثُ على رأس المائة السابعة، المشارُ إليه في الحديث؛ فإنه أستاذُ زمانه علمًا ودينًا».
وقال عنه الإمام ابن كثير في "طبقاته": أحد علماء وقته، بل أجلُّهم وأكثرهم علمًا، ودينًا، وورعًا، وتقشفًا، ومداومةً على العلم في ليله ونهاره، مع كبر السِّن والشغل بالحكم".
لم يقف علمه عند الدرس والتأليف، بل تولى منصب قاضي القضاة بمصر في عهد السلطان قلاوون، ثم أعيد إليه في عهد الناصر محمد، فكان مثالًا في الورع والعدل، لا تأخذه في الله لومة لائم. اشتهر بمواقفه الحاسمة، إذ أمر بهدم الحانات التي تبيع الخمر، ومنع المنكرات، وأبطل الرشوة والمحسوبية في القضاء.
ورغم علو منصبه، عاش زاهدًا متقشفًا، بعيدًا عن زخارف الدنيا، متقللًا من متاعها.
ترك آثارًا علمية باقية، من أبرزها "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام"، و"الإلمام بأحاديث الأحكام"، و"شرح الأربعين النووية"، و"اقتراح في أصول الفقه".
توفي الإمام في صفر سنة 702هـ، الموافق أكتوبر 1302م، ودُفن بالقرافة الصغرى في القاهرة، وقد شيّعه العلماء والأمراء والعامة، وعدّت وفاته خسارة عظيمة للأمة.
إن شخصية ابن دقيق العيد تمثل صورة نادرة من صور العالم العامل، المجتهد الزاهد، الذي جمع بين قوة العلم وشجاعة الموقف، فكان إمامًا في زمنه، وبقي نجمًا مضيئًا في سماء التراث الإسلامي.
إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
غلبت النزعةُ الفقهيةُ على شرحه لـ«العمدة» وهو كتابٌ جمع فيه مُؤلِّفه أحاديث الأحكام، فخرج شرحًا بديعًا، يُعرف منه مسائل الخلاف، وطريقته بين العلماء، ويُستفاد منه كيفيّةُ الاستدلال على المسائل، ومناقشةُ الردود والاعتراضات عليها؛ مناقشةً علميةً خاليةً عن الهوى والتعصب، مع احترام الرأي الآخر المبني على الدليل.
وقد شرح هذا الكتابُ جملةً من الأحاديث التي اتفق عليها الإمامان البخاري ومسلم، وكانت في صحيحيهما، فاشتمل على تسعة عشر بابًا من الأحكام وهي: كتاب الطهارة، كتاب الصلاة، كتاب الجنائز، كتاب الزكاة، كتاب الصيام، كتاب الحج، كتاب البيوع، كتاب النكاح، كتاب الطلاق، كتاب اللعان، كتاب الرضاع، كتاب القصاص، كتاب الحدود، كتاب الأيمان والنذور، كتاب الأطعمة، كتاب الأشربة، كتاب اللباس، كتاب الجهاد، وكتاب العتق. ورغم الفائدة العظمى التي يُحصّلها قارئُ الكتاب إلا إنه لا يخفى على المطالع أن الكتابَ موجَّهٌ لطلبةِ العلم المتخصصين في هذه الفنون.
منهج الكتاب اتَّبع الشيخُ ابنُ دقيقِ العيد في هذا الكتاب منهجًا علميًا رصينًا؛ تتضح معالمه في الآتي: أولًا: أنه يبدأ كلامه بذكر حديث الباب، وقد مشى فيه على ترتيب مؤلّف «العمدة» الإمام عبد الغني المقدسي، فيقول الحديث الأول: عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال سمعت رسول الله ﷺ يقول .. ثم يذكر الحديث كاملًا، وإذا كان للحديث رواية أخرى ذكرها.
ثانيًا: يترجم للراوي الأعلى ترجمةً وافيةً موجزةً بذكر اسمه، ويضبطه -إن توهّم الضبط-، ويذكر كنيته ولقبه، ومولده ووفاته، بما يعرفه ويزيل اللبس عنه.
ثالثًا: يشرح الحديث، ويقسّمه إلى مسائلَ فيقول: ثم الكلامُ على هذا الحديث من وجوهٍ، فيذكر وجوهًا، ويقول: الأول، الثاني ، الثالث .. وهكذا.
رابعًا: عند شرحه للحديث وفكّ ألفاظه يستخرج الأحكام الفقهية، ويبين آراء الفقهاء، ويعرض أدلتهم ويبين الراجح فيها، مع اعتناءٍ كبيرٍ بذكر مذهبي المالكية والشافعية، دون إغفال بقية المذاهب. خامسًا: رغم غلبة النزعة الفقهية على شرح الشيخ كما تقدَّم، إلا أنه لم يغفل باقي العلوم؛ فتراه ينتقل من فن إلى فن، ويزل الإشكالات، ويوضح المعاني، ويحلل الألفاظ، ويُفهم القارئ، وقد يطول نفسه في شرح بعض المسائل، ويكتفى أحيانًا في بعضها بأسطر معدودة.