عاجل

مصر بلد المجددين| الليث بن سعد.. فقيه اندثر علمه وبقي أثره (تقرير)

الليث بن سعد
الليث بن سعد

يواصل موقع «نيوز رووم» الحديث عن أرض المجددين، إنطلاقًا من حديث وزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهري عن الدوري المصري خاصة ما بذله الإمام الليث بن سعد، وفي السطور التالية نستعرض قبسًا من سيرة فقيه مصر وإمامها والذي عرف بأنه «الأفقه من مالك»، فمن هو الليث بن سعد؟

الليث بن سعد 

لا يكاد تاريخ مصر الإسلامي يعرف إماماً اجتمع له من المقامات والمناقب ما اجتمع للإمام الليث بن سعد الفهمي (ت 175هـ)، الرجل الذي لُقِّب بـ "إمام أهل مصر" بلا منازع. لم يكن الليث عالماً فحسب، بل كان مدرسة متكاملة تجمع بين العلم الغزير، والورع الشديد، والكرم الأسطوري، والحكمة في التعامل مع الخلفاء والسلاطين. غير أن بعض المواقف واللطائف التي نُقلت عنه ظلت حبيسة بطون الكتب والمخطوطات، ولم تنل حظها من الذكر في الكتابات المعاصرة.

وجاء في تعريفه هو شيخ الإسلام الإمام الحافظ العالم أبو الحارث الليث بن سعد بن عبد الرحمن الفهمي القَلقَشندي فقيه ومحدث وإمام أهل مصر في زمانه، وصاحب أحد المذاهب الإسلامية المندثرة. ولد في قرية قَلْقَشَنْدَة بمحافظة القليوبية، ولجذور تعود إلى إصبَهان.

كان أحد أشهر الفقهاء في زمانه، بل فاق في علمه وفقهه إمام المدينة المنورة مالك بن أنس، غير أن تلامذته لم يقوموا بتدوين علمه وفقهه ونشره في الآفاق، مثلما فعل تلامذة الإمام مالك، وكان الإمام الشافعي يقول: «اللَّيْثُ أَفْقَهُ مِنْ مَالِكٍ إِلاَّ أَنَّ أَصْحَابَه لَمْ يَقُوْمُوا بِهِ». بلغ مبلغًا عاليًا من العلم والفقه الشرعي بِحيثُ إِنَّ مُتولِّي مصر، وقاضيها، وناظرها كانوا يرجعون إِلى رأيه، ومشُورته. عرف بأنه كان كثير الاتصال بمجالس العلم، بحيث قال ابن بكير: «سَمِعْتُ اللَّيْثَ يَقُوْلُ: سَمِعْتُ بِمَكَّةَ سَنَةَ ثَلاَثَ عَشْرَةَ وَمائَةٍ مِنَ الزُّهْرِيِّ وَأَنَا ابْنُ عِشْرِيْنَ سَنَةً».

الإمامان الليث ومالك بن أنس.. كيف بدأ الود بينهما؟ 

في الحجاز التقى بعدد من فقهاء العصر من أهل السنة أهل الرأي على السواء، وجلس إليهم وفي حلقة ربيعة الرأي تعرف بمالك بن أنس، وهو في مثل سنه، وتبادلا الرأي بعد الحلقة. وكان مالك في ذلك الوقت طالب علم في نحو العشرين، يكابد في سبيل طلب العلم .. وأدرك الليث أن صاحبه يعاني الفقر، فأخذ يحتال ليصله بمال. ولكنه لم يكن يعرف كيف يبدأ. على أنهما تلازما في حلقة ربيعة، وتلازما بعد الحلقة يتدارسان، ويتبادلان الرأي فيما حصلاه، وألف كل منهما صاحبه، ونشأت بينهما مودة، فأرسل مالك طبقًا فيه رطب إلى الليث، فقبل الليث الهدية شاكرًا، ورد الطبق مملوءا بالدنانير. وعاد الليث إلى مصر، واتصلت الرسائل بينه وبين مالك ودعاه لزيارة مصر ولكن مالك بن أنس لم يستطع. 

وتعود الليث أن يزوره في المدينه كلما ذهب للحج أو العمرة وزيارة الحرم النبوي. وقد ظل الليث يصل مالك بن أنس بمائة دينار كل عام، وكتب مالك إليه أن عليه ديناراً، فأرسل إليه الليث خمسمائة دينار .. والدينار في ذلك الزمان كان يكفي لكسوة رجل أو لشراء دابة .. ولم ينقطع عطاء الليث لمالك حتى أصاب مالك عطاء الخلفاء وأصبح ثريًا .

<span style=
مسجد الليث بن سعد

الليث ورفضه الإفتاء فى سن صغيره

يروى أنه قد أغراه زملاؤه بأن يتخذ لنفسه حلقة ولكنه تهيب أن يجلس مجلس الأستاذ. ولقد علم أحد أشياخه أن الناس يستفتونه، فيفتي، ويرضون عن فتياه .. فناداه الشيخ وشجعه على الإفتاء. ولكن الليث استحيا لأنه صغير السن، ثم لأنه من الموالي، وهذا الأمر يجب أن يكون للعرب! وإذ ذاك قال له الشيخ أما سمعت عما كان بين الخليفة هشام بن عبد الملك وبين الفقيه شهاب الزهري؟ فقال الليث "لا" فقال الشيخ إن الخليفة سأل الزهري وهو أفقه هذا العصر، عن العلماء الذين يسودون أهل الحجاز وأهل اليمن وأهل الشام وأهل مصر وأهل خرسان.

فذكر له الزهري أسماءهم. والخليفة يسأل عن كل واحد من العرب هو أم من الموالي. فيقول الزهري من الموالي فقال الخليفة مغضبًا: "والله لتسودون الموالي (المسلمون من أصول غير عربية) على العرب حتى يخطب لها على المنابر والعرب تحتها." فقال شهاب الزهري: إنما هو أمر الله ودينه فمن حفظه ساد ومن.

مسجد الليث بن سعد.. مقصد الملوك والعامة للتبرك والزيارة

مسجد الليث بن سعد هو أحد المساجد التي انشئت في عصر الدولة الايوبية في مصر، يتكون الجامع من مستطيل تتقدمه عدة مداخل، تهبط إلى المدخل الأول عدة درجات، ويلى المدخل الخارجي باب آخر يؤدى إلى طرقة كبيرة بها عمودان رخاميان، ثم يتأتى الباب الثالث وهو ذو مصراعان من الخشب ذى الزخارف المحفورة حفراً عميقا، نقلا إليه من مسجد الإمام الشافعي ومؤرخ سنة 608 هجرية، ويؤدى الباب إلى المسجد المستطيل وينتهى بحائط القبلة حيث يوجد المحراب والمنبر. قامت وزارة الأوقاف ببناء المسجد في عهد خديوي مصر عباس حلمي الثاني عام 1322م وذلك يظهر من الكتابة الكوفية على المنبر. كان ملوك مصر يقصدون قبر الإمامين: الليث والشافعي للزيارة والتبرك، خاصة السلطان قايتباي والسلطان الغوري. 

700 حديث جمعهم الأزهري عن الليث بن سعد

في تصريحات سابقة للدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف إبان العام 2021 أشار إلى أنه أحصى فيما يزيد على 700 حديث من الأحاديث المروية للإمام الليث، مضيفاً: «إذا جمعت في كتاب، سيكون كتاب شديد القدر، وإحياء نوقف به ما وقع في جيل سابق.. الليث أفقه من مالك».

وتابع خلال ندوة مركز القاهرة للدراسات السياسية والاستراتيجية: لـ«الليث» عدد من الأركان، الركن الأول من شخصيته «العلم»، الركن الثاني «الكرم والثراء»، الثالث «الثقة» التي حظى بها عند ولاة الأمر، الركن الرابع «العمران».

وشدد على أن الإمام الليث بن سعد -رحمه الله-، ذلك العالم الفذّ الذي جمع بين العلم الواسع والمكانة الرفيعة، وكان أحد أبرز أعلام مصر في الفقه والحديث والعلم الشرعي، وأشار إلى أن الإمام الليث إمام أهل مصر وفقيهها ومسندها ومحدثها ووزيرها، وقد أثنى عليه كل معاصريه، حتى قال فيه الإمام الشافعي -رحمه الله-: "إن الإمام الليث أفقه من مالك، إمام أهل المدينة، إلا أن أصحابه لم يقوموا به".

فقه التعايش في تراث الإمام الليث بن سعد

يقول الدكتور نظير عياد مفتي الجمهورية في تصريحات خاصة لـ «نيوز رووم»، إن إطلاق "مركز الليث بن سعد لفقه التعايش" يأتي تأكيدًا على التزام دار الإفتاء المصرية بخطاب ديني منفتح، ينهض على الاعتراف بالتعدد والاختلاف الإنساني والديني والثقافي كجزء من سنن الله في الكون.

وتابع: اختيار اسم الإمام الليث بن سعد لم يكن عشوائيًا، بل لأنه يمثل مدرسة فقهية مصرية اتسمت بالمرونة والانفتاح على واقع الناس، حيث كان فقيها عابرا للجغرافيا، جامعا بين العلم والرحمة، ومن هنا يهدف المركز إلى إحياء فقه التعايش كمسار علمي ومؤسسي ينتج دراسات، ويوفر برامج تدريبية، ويطور أدوات فقهية معاصرة تسهم في بناء مجتمعات متصالحة لا متنازعة، انطلاقا من مرجعية شرعية أصيلة، ومنفتحة في الوقت نفسه على مبادئ المواطنة، والسلم، والعدالة.

وسع الله عليه في العلم وفي المال

يقول الدكتور حسام شاكر الأستاذ بجامعة الأزهر، في حديث خاص لـ نيوز رووم: يكفي الإمام الليث بن سعد شرف الاشتهار بالعلم والكرم، حيث كان يحرص على صون كرامة الفقراء، مشيدًا بمحاولات الكثيرة التي قام بها المصريون لتخليد ذكراه منها مساجد باسمه، ومسلسل تليفزيوني عن حياته.

يضيف: الليث من كبار الأئمة الذي اشتهرت عنه شهادة الإمام الشافعي في قوله عنه: "الليث بن سعد أفقه من مالك، إلا أن أصحابه لم يقوموا به"، كما اشتهر عنه صفة الكرم وحرصه على صون كرامة الفقراء في الإنفاق عليهم التي ينبغي أن نتعلم منها، فقد وسع الله عليه في العلم وفي المال ومما يروى عنه أنه جمع فقراء بلدته في مأدبة غداء وقسمهم إلى أقسام كل أربعة علي إناء كبير (صينية غداء) وجلسوا يأكلوا فصاح أحدهم وهو يأكل يا إمام لقد وجدت كيس به نقود بوعائي وصاح آخر وأنا كذلك وأنا كذلك فقال لهم من وجد في طعامه شيء فهو رزق بعثه الله إليه.

وتابع: إذا كان الله قد شرفه بالعلم والكرم، لكن علمه لم يصل مثل بقية الأئمة فيكفيه شرف الانتساب إلى العلم، والكرم، ونحمد الله أن أحيا ذكره في مصر في مواطن عدة فلايزال اسمه بها مذكورًا، ومسجده معروفًا، ومؤخرًا أطلق اسمه على مسجد الهيئة الوطنية للإعلام، وأذكر أن هناك  محاولات تمت  للتعريف بحياته لكنها لم تأخذ حظها من الذيوع والانتشار ففي عام 1999م تم عرض مسلسل تليفزيوني في رمضان قام ببطولته أشرف عبدالغفور تناول حياته ليت التليفزيون يعيده مرة ثانية أو تتبناه الجهات المعنية حتى يذاع ويكتب له الانتشار من جديد.

وزير الأوقاف يتحدث عن الليث بن سعد
وزير الأوقاف يتحدث عن الليث بن سعد

الليث بن سعد.. الإمام الذي هزّ عرش الخلفاء بزهده وكرمه

يروي الباحث في التصوف مصطفى زايد في حديثه لـ نيوز رووم: منزلة الليث عند الإمام أحمد بن حنبل تكشف عن مكانة استثنائية قلّ أن تُمنح لعالم. فقد قال عنه الإمام أحمد: "ويحكم! إنه كان رجلاً مطاعاً، إماماً في الخير، كأنه الجبل الذي لا تحركه العواصف، ما رأيت أحداً أكمل منه" كما جاء في تاريخ دمشق لابن عساكر وسير أعلام النبلاء للذهبي. هذه العبارة النادرة تُجسّد صلابة الليث وثباته أمام الفتن والضغوط، وتجعل صورته أشبه بجبل راسخ لا تهزه العواصف.

أما سخاؤه فكان مضرب الأمثال. فقد بلغ الخليفة العباسي المهدي أن الليث يفرّق كل عام مائة ألف دينار على الناس، فاستعظم الأمر وظنّه مبالغة. فأرسل يسأله، فأجابه الليث بعبارة بليغة: "إن رزقي كان يأتيني من مكان لا أتوقعه، فكنت أتوقع أن يأتيني من حيث لا أتوقعه، فكنت أتصدق به"، ثم أوضح أن دخله السنوي من تجارته وضياعه كان يصل إلى ثمانين ألف دينار، غير ما يتصدق به (وفيات الأعيان لابن خلكان، ج4، ص135؛ تاريخ الإسلام للذهبي، حوادث 171-180هـ. لم يكن سخاؤه إذن اندفاعاً عاطفياً فحسب، بل كان قائماً على فقه اقتصادي نادر جعل منه تاجراً ناجحاً ومُعيلًا لمجتمعه بأسره.

ومع هذا الجاه والثراء، لم يُغره السلطان، بل رفض المناصب بإباء العالم العارف. فقد عرض الخليفة أبو جعفر المنصور عليه منصب قاضي مصر، فأبى وأصر الخليفة. فقال الليث: "أنا أضعف عن هذا". فرد المنصور: "إنك لتخالفنا!" فأجابه الليث بحجة دامغة: "يا أمير المؤمنين، إن أردت أن تجبرني على القضاء، فليس لك ذلك؛ لأن الله يقول: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ) [النساء:65]. فجعل الحكم من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يجبر عليه؟! وإن أردت أن تخيرني، فقد اخترت تركَه" تاريخ بغداد للخطيب البغدادي؛ وصفة الصفوة لابن الجوزي. عندها قال المنصور: "لقد أعجزتني". فكانت حجته درساً في الفقه والسياسة الشرعية.

ولم تقتصر عظمة الليث على علمه وكرمه، بل امتدت إلى عزة نفسه وهيبته. يروي أبو نعيم الأصبهاني أن رجلاً من علية القوم دخل عليه متعجرفاً وسأله: "من أنت؟" فأجابه الليث بهدوء: "أما إذا أردت أن تعرف من أنا، فأنا منْ إذا قيل له: اتق الله، اتعظ. وإذا قيل له: اتق النار، خاف. وإذا قيل له: ارحم من في الأرض، يرحمك من في السماء، رحم" كما ذكر صاحب حلية الأولياء؛ وتاريخ ابن معين برواية الدوري. لم يكن الرد تعريفاً شخصياً، بل درساً أخلاقياً يعلّم المتكبر أن الهوية الحقيقية تُقاس بالتقوى لا بالجاه.

وكان وفاؤه لشيوخه عنواناً آخر من عظمته. فقد ظل يجلّ شيخه ابن لهيعة رغم ما أصابه من ضعف بعد احتراق مكتبته. وكان يرسل إليه المال والحنطة كل عام، فلما رد ابن لهيعة بعض عطاياه قال الليث: "ويحك! لعل الشيخ استقذرنا؟" فأجابه ابن لهيعة: "لا، ولكنها كثيرة، وأخشى أن أشكرها بغير حقها، أو أن أكون ممن يأكلون أموال الناس بالباطل". عندها بكى الليث وقال: "رحم الله الشيخ! إنه لورع"، كان مشهد التلميذ الذي يبكي هيبةً لورع شيخه من أعظم ما يجسد أخلاق العلماء.

لقد كان الليث بن سعد إماماً لا يملك مصر فحسب، بل ملك القلوب بالعلم والعدل والكرم والزهد. إنه النموذج الذي تحتاجه الأمة اليوم لتدرك أن القيادة الحقيقية لا تُقاس بالسلطان والجاه، بل بالعلم الراسخ، والورع العميق، والكرم الذي يفيض كالأنهار.

تم نسخ الرابط