أرض المجددين| الإمام جلال الدين السيوطي.. موسوعة عصره ووريث العلوم الإسلامية

يواصل موقع «نيوز رووم» نشر سلسلة حلقات «أرض المجددين»، والتي تتناول مجددو مصر عبر القرون الماضية، ضمن التعريف بهم وبجهودهم. ففي عالم العلوم الإسلامية تبرز أسماء حفرت مكانتها في ذاكرة الأمة لما قدّمته من علم غزير وفقه راسخ وتأليف لا يُضاهى,ومن بين هؤلاء، يتصدر الإمام جلال الدين السيوطي، الذي جمع بين موسوعية المعرفة، وسعة الإنتاج العلمي، والتفاني في خدمة التراث الإسلامي، حتى صار يُلقب بـ «خاتمة الحفاظ».
من هو الإمام جلال الدين السيوطي؟
عبدالرحمن بن الكمال جلال الدين السيوطي، ولد في القاهرة في سنة 849هـ / 1445م، ونشأ يتيم الأب، إذ توفي والده وهو في سنّ الخامسة. لكن يتيم الأمس أصبح بعد سنوات قليلة أحد أعلام الأمة الإسلامية، بفضل ذكائه الفطري، وتفرّغه المبكر لطلب العلم.
بدأ في حفظ القرآن الكريم وهو لم يتجاوز السادسة، ثم نهل من علوم الحديث، والفقه، واللغة، والتفسير، وغيرها من العلوم على أيدي كبار العلماء في عصره، حتى صار مرجعًا يُقصد للفتيا والتدريس.
عالم مميز
يعتبر السيوطي من أكثر علماء المسلمين إنتاجًا وتأليفًا، فقد ألّف ما يزيد عن 600 مؤلف في شتى العلوم، من أبرزها: «الدر المنثور في التفسير بالمأثور، الإتقان في علوم القرآن، تاريخ الخلفاء، الجامع الصغير من حديث البشير النذير، الحاوي للفتاوي، وسلاسة ووضوح».
تميّز أسلوب الإمام جلال الدين السيوطي بالسلاسة والوضوح، وجمع بين النقل والتحقيق، وكان يعتمد غالبًا على الرواية المسندة، ما جعله مرجعًا رئيسيًا في علم الحديث وعلوم القرآن.
دفاعه عن السنة النبوية
اشتهرجلال الدين السيوطي بدفاعه الشديد عن السنة النبوية، وكان لا يتهاون في مواجهة البدع أو الأقوال المخالفة لما ورد في صحيح النقل. وقد خاض جدالات علمية كثيرة، منها ما أفضى إلى اعتزاله التدريس في آخر حياته بعد أن اشتد الخلاف بينه وبين بعض فقهاء عصره.
العزلة عن الحياة العامة
رغم شهرته الواسعة، اختار السيوطي العزلة عن الحياة العامة، خاصة في آخر حياته، وتفرغ للتأليف والعبادة. فقد سكن في روضة المقياس بمصر، وقضى ما تبقى من عمره بعيدًا عن الأضواء، ورفض تولي أي منصب رسمي، سواء في القضاء أو الإفتاء.
السيوطي كان نقليًا في منهجه، بمعنى أنه اعتمد على جمع أقوال العلماء والاعتماد على المصادر الأصلية مثل: «القرآن الكريم. كتب الحديث (البخاري، مسلم، السنن الأربعة). كتب اللغة والنحو (مثل سيبويه، والمبرد). أقوال العلماء في التفسير والفقه والبلاغة.
وكان يُكثر من النقل مع عزو الأقوال إلى أصحابها، حتى اشتهر بأنه "جامع الكتب".
الموسوعية
السيوطي كان موسوعيًا بامتياز، ويظهر ذلك في مؤلفاته التي تغطي أكثر من 50 علمًا. ومن أبرز سمات منهجه:
جمع المادة العلمية من مصادر متعددة.
ترتيبها وتبويبها بطريقة منظمة.
أحيانًا يختصر أو يعلق تعليقات بسيطة دون تحليل مطوّل.
مثاله في ذلك: كتابه "الدر المنثور في التفسير بالمأثور" الذي جمع فيه أقوال السلف في التفسير دون تدخل منه في التحليل أو الترجيح غالبًا.
التوثيق والتحقيق
اهتم السيوطي بتوثيق الروايات وضبط الأسانيد، خصوصًا في كتبه الحديثية مثل: «الجامع الصغير. الجامع الكبير. اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة (لكشف الأحاديث الضعيفة والموضوعة)».
كما ميّز بين الصحيح والضعيف، واعتمد على أقوال علماء الجرح والتعديل.
الدفاع عن المذهب الشافعي
السيوطي كان شافعيًا، وقد دافع عن مذهبه، لكنه لم يتعصب له تعصبًا شديدًا، بل كان ينقل أقوال المذاهب الأخرى أحيانًا ويقارن بينها.
في بعض كتبه مثل "الأشباه والنظائر"، جمع فروعًا فقهية كثيرة على طريقة المقارنة.
رغم كثرة تأليفاته، إلا أن السيوطي كان يدرك أن ما جمعه هو من اجتهاد العلماء قبله، وكان يقول:
"ما من فنٍّ من الفنون إلا وقد صنفت فيه مؤلفًا، وأتيت فيه بما لم يُسبق إليه".
كان يحرص على ترتيب المادة العلمية ترتيبا يسهل الرجوع إليه.
ففي كتب الحديث مثلاً كان يرتب الأحاديث على حروف المعجم (مثل الجامع الصغير).
وفي كتب التفسير كان يرتب الأقوال حسب الآيات.
اختصار المؤلفات المطولة وتيسيرها:
ألّف مختصرات لكتب ضخمة تسهيلاً للطلاب.
مثال: كتابه "تدريب الراوي"، وهو شرح لمقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث، ويُعد من أشهر الكتب في هذا الباب.
أمثلة على تطبيق منهجه:
الدر المنثور: تفسير بالمأثور – تجميع أقوال السلف – ترتيب على السور
الإتقان في علوم القرآن: تصنيف العلوم – توثيق – تبويب دقيق
الجامع الصغير: جمع الأحاديث – تصنيف حسب الحروف – الإشارة للصحة
اللآلئ المصنوعة: نقد الحديث – التحقق من الأسانيد – فضح الموضوعات
المزهر في علوم اللغة: موسوعي لغوي – جمع أقوال النحاة واللغويين – تقسيم واضح
خلاصة المنهج العلمي للسيوطي
النقل من المصادر الموثوقة.
الجمع الموسوعي للآراء.
التنظيم والتبويب الجيد.
العناية بالتوثيق والنقد.
عرض المادة العلمية دون تطويل أو تحليل شخصي كبير.
الدفاع عن المذهب الشافعي مع الانفتاح على آراء الآخرين.
قالوا عنه
قال عنه الإمام الشوكاني: "كان حافظًا محدثًا، فقيهًا، لغويًا، نحويًا، أصوليًا، بل لم يترك فنًا من فنون العلم إلا وخاض غماره."
أما الزركلي في الأعلام فقد وصفه بأنه أحد أئمة عصره في التفسير والحديث والفقه واللغة.
دعوة السيسي للاقتداء به
كان قد أكد الرئيس عبد الفتاح السيسي أهمية الاقتداء بالإمام جلال الدين السيوطي خلال مشاركته في حفل تخرج الدورة الثانية لتأهيل أئمة وزارة الأوقاف من الأكاديمية العسكرية المصرية، مشيدًا بإسهاماته العلمية الاستثنائية، حيث ألّف 1164 كتابًا خلال حياته، مما جعله أحد أبرز علماء الإسلام في التاريخ.
وفاته
توفي الإمام جلال الدين السيوطي عام 911هـ / 1505م، عن عمر ناهز 62 عامًا، لكنّه ترك وراءه إرثًا علميًا ضخمًا ما زال حيًا بين أيدي طلبة العلم إلى اليوم، يُدرّس في الجامعات، ويُطبع في المكتبات، ويُستشهد به في المحافل.
لم يكن السيوطي مجرد عالم من علماء الإسلام، بل كان ظاهرة علمية قلّ نظيرها، جمع بين عمق التخصص، وتعدد المعارف، واستقلالية الفكر، والزهد في الدنيا، مما جعله قدوة للأجيال، ومصدر إلهام لطلاب العلم في كل عصر ومصر.
فجلال الدين السيوطي ليس فقط اسماً في صفحات التاريخ، بل صرحًا من صروح المعرفة الإسلامية الخالدة.