أرض المجددين.. لماذا نسب وزير الأوقاف الإمام الشافعي إلى مجددي مصر؟

تردد اسم الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى، صاحب المذهب الفقهي الثالث، ومجدد القرن الثاني الهجري في احتفال وزارة الأوقاف بالمولد النبوي الشريف الأربعاء الماضي ضمن المجددين المصريين بمقالة وزير الأوقاف، وتساءل الكثيرون عن سر اعتباره مصريًا رغم ولادته خارجها.
«نيوز رووم» تواصلت مع وزارة الأوقاف لاستيضاح هذه النقطة وبيان الدلالات الرمزية لاعتبار الإمام الشافعي من المجددين المصريين عبر الـ 14 قرنًا الماضية، وقبل أن نجيب التساؤل نبحر في دهاليز سيرة الإمام الشافعي رضوان الله عليه.
الإمام الشافعي.. فقيه الملة ونسيب رسول الله
يذكر صاحب «سير أعلام النبلاء» الإمام شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي في ترجمته الإمام الشافعي، أنه: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، الإمام، عالم العصر، ناصر الحديث، فقيه الملة أبو عبد الله القرشي ثم المطلبي الشافعي المكي، الغزي المولد، نسيب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وابن عمه، فالمطلب هو أخو هاشم والد عبد المطلب.
مولد الإمام الشافعي ونشأته
وعن مولده قال «الذهبي»: اتفق مولد الإمام بغزة، ومات أبوه إدريس شابا، فنشأ محمد يتيما في حجر أمه، فخافت عليه الضيعة، فتحولت به إلى محتده وهو ابن عامين، فنشأ بمكة، وأقبل على الرمي، حتى فاق فيه الأقران، وصار يصيب من عشرة أسهم تسعة، ثم أقبل على العربية والشعر، فبرع في ذلك وتقدم. ثم حبب إليه الفقه، فساد أهل زمانه.
وأخذ العلم ببلده عن: مسلم بن خالد الزنجي مفتي مكة، وداود بن عبد الرحمن العطار، وعمه محمد بن علي بن شافع، فهو ابن عم العباس جد الشافعي، وسفيان بن عيينة، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وسعيد بن سالم، وفضيل بن عياض، وعدة.
كما ارتحل -وهو ابن نيف وعشرين سنة وقد أفتى وتأهل للإمامة- إلى المدينة، فحمل عن مالك بن أنس " الموطأ " عرضه من حفظه، -وقيل : من حفظه لأكثره- وحمل عن: إبراهيم بن أبي يحيى فأكثر، وعبد العزيز الدراوردي، وعطاف بن خالد، وإسماعيل بن جعفر، وإبراهيم بن سعد وطبقتهم.
وأخذ باليمن عن: مطرف بن مازن، وهشام بن يوسف القاضي، وطائفة، وببغداد عن : محمد بن الحسن، فقيه العراق، ولازمه، وحمل عنه وقر بعير، وعن إسماعيل ابن علية، وعبد الوهاب الثقفي وخلق .
وصنف التصانيف، ودون العلم، ورد على الأئمة متبعا الأثر، وصنف في أصول الفقه وفروعه، وبعد صيته، وتكاثر عليه الطلبة.
صاحب المذهب الثالث ومؤسس أصول الفقه
أسس الإمام الشافعي مذهبًا خاصًا عُرف بالمذهب الشافعي؛ فبعد أن أقام في بغداد مدةً طويلة درس فيها كتب محمد بن الحسن الشيباني، وناظر أهل الرأي وجادلهم، ودرس آراء الإمام مالك الفقهية، أراد أن يخرج للناس بمذهب يجمع فقه أهل العراق وأهل المدينة، وقد دوّن مذهبه في ثلاثة بلدان على ثلاث مراحل، وهذه البلدان على الترتيب هي: مكة المكرمة وكان له حلقة علم في المسجد الحرام، ثم بغداد بعد أن سافر إليها للمرة الثانية، ثم ارتحل إلى مصر، وفي كل بلد كان له تلاميذه الذين تلقّوا العلم على يديه.
وحين ذهب الإمام الشافعي إلى مصر عام 199 هـ كانت آراؤه قد نضجت، وزادت خبرته، واختبر العمل بمذهبه، بالإضافة إلى معاينته لعادات وأعراف في مصر لم يكن يعرفها؛ مما أدى إلى تكوين آراء جديدة لديه ورجوعه عن بعض آرائه الفقهية القديمة.
يُعد مؤسس علم أصول الفقه؛ حيث كان الإمام الشافعي أول من ألّف في علم أصول الفقه في كتابه الرسالة، وتتلمذ على يديه عدد من التلاميذ الذين لازموه لأخذ العلم منه، ومنهم: الإمام أحمد بن حنبل، أبو بكر الحميدي، وأبو إسحاق إبراهيم بن محمد العباسي، وأبو بكر محمد بن إدريس، وأبو الوليد موسى بن أبي الجارود، والحسن الصباح الزعفراني.
صنّف العديد من المصنفات والمؤلفات في الفقه وأصوله والقرآن والحديث والشعر وغيرها، ومن مؤلفات الإمام الشافعي: كتاب الأم، جماع العلم، إبطال الاستحسان، وكتاب أحكام القرآن. وروى عنه الحديثَ كثيرون، وجمعت الأحاديث التي رواها في مسندٍ عُرف بمسند الشافعي.
هل كان الشافعي مصريًا؟
الدكتور أسامة رسلان المتحدث باسم وزارة الأوقاف المصرية قال لـ «نيوز رووم»، إن الإمام الشافعي انتقل وعاش في مصر، ومذهب الأكثر شيوعًا امتد إلى مصر ومنها إلى البلدان الأخرى، هو مصري المحل والإقامة.
الإمام الشافعي جمع بين الأصالة والمعاصرة في منهجه
فيما أوضح الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية الدكتور محمد الجندي في كلمته التي جاءت بعنوان: «الإمام الشافعي بين تفرد العلماء وتجرد الأولياء في مواجهة التحديات التقنية»، أنَّ مسيرة الإمام الشافعي شكَّلت نقطة تحوُّل مضيئة في مسيرة الفكر الإسلامي، لا سيَّما في الفقه وأصوله، إذْ إنَّه مجدِّد أرسى قواعد جديدة، وجمع بين المدارس الفقهية ليقدِّم للأمَّة الإسلاميَّة منهجًا متكاملًا بُنِيَ على رؤية مكتملة، راعى من خلالها الأصول والقواعد الفقهية، وأخذ بعين الاعتبار ما تقتضيه طبيعة الحياة من تجدُّد وتغيُّر، فجاءت فروعه ملائمة لظروف الواقع مع التزامها بالأصول.
وأشار الأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية إلى أنَّ الإمام الشافعي -رحمه الله- كان نموذجًا فريدًا في جَمْعه بين الأصالة والمعاصرة؛ إذ درس علوم الشريعة على أكابر العلماء في الحجاز والعراق، وتمكَّن من المزاوجة بين فقه الأثر وفقه الرأي؛ وهو ما أتاح له تأسيس مذهب متكامل يُراعي النصوص والمقاصد معًا، لافتًا إلى أنَّ شخصيَّة الإمام الشافعي كانت متفرِّدة في تركيبتها العلمية؛ فقد كان واسع الأفق، حاضر الذهن، شديد الدقة في استنباط الأحكام، عميق الفهم للنصوص، مدركًا طبيعة الواقع الذي يعيش فيه؛ مما مكَّنه من تقديم اجتهادات مؤصلة ومنضبطة رسَّخت لأصول الاستدلال والاستنباط في الفقه الإسلامي.
وبيَّن أنَّ رحلة الإمام الشافعي إلى مصر عام 199هـ شكَّلت محطة حاسمة في مسيرته العِلميَّة، وميلادًا لمذهبه الجديد؛ ففي مصر، وبين ذلك المجتمع بتنوُّعاته الثريَّة؛ اطَّلع على أعراف وحضارات وآثار جديدة؛ ممَّا دفعه إلى إعادة دراسة وتحليل آرائه الفقهية السابقة على ضوء هذه التجارِب الحياتيَّة التي عايشها في مصر، وكنتيجة لهذه التجرِبة الفريدة، أعاد كتابة رسالته في الأصول، وعدل عن بعض آرائه الفقهية الفرعية؛ ممَّا دلَّ على مرونته الفقهية وعمق فهمه لمقاصد الشريعة، وقدرته على التكيُّف مع تغيُّر الظروف والأحوال.
ولفت الدكتور محمد الجندي إلى أنَّ الإمام الشافعي أسهم بدَور بارز في ترسيخ المنهج الاستدلالي وضبط العَلاقة بين مصادر التشريع؛ ممَّا جعله علامة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي، وأثْرى به الاجتهاد الفقهي، مؤكدًا أنه لم يكُن عالِمًا منعزلًا عن قضايا عصره؛ بل كان فقيهًا معايشًا للواقع.
وذكر أنَّ منهج الإمام الشافعي في الفقه لم يكُن مجرَّد إطار فقهي فحسب؛ بل كان له بصمة عميقة في بناء الفكر الإسلامي، القائم على الاستدلال والترجيح بين الأدلة؛ ممَّا أتاح لعقلية المجتهد مرونة فريدة مضبوطة بمنهجيَّة تساعده على استنباط الأحكام، ومواجهة المستجدات بوعي وفهم عميق، وهو ما أسهم في استمرارية العطاء الفكري للأجيال المتعاقبة.
وتابع أنَّ مِن أبرز الشواهد العِلميَّة على عظمة هذا المنهج؛ ما نراه جليًّا في المدرسة الأزهرية العريقة، التي يُعدُّ المنهج الفقهي للإمام الشافعي أحد أركانها التي استمدَّت منها العقلية الأزهرية التفكير الفقهي السليم، الذي يؤهِّل صاحبها للاجتهاد، إضافةً إلى كون الإمام الشافعي أول مَنْ وضع لبنات عِلم أصول الفقه في كتابه الخالد (الرسالة)؛ لهذا استحق عن جدارة أن يُوصَف بأنه «عقل فقهي ومنهجي عبقري»، وبأنه «مجدِّد القرن الثاني الهجري».
وفاة الإمام الشافعي
توفيّ الإمام الشافعي -رحمه الله- سنة 204هـ، في مصر عن 54 سنة، بعد أن ارتحل إليها سنة 199هـ، وعاش فيها مدة 5 سنوات، ثم مرض واشتد عليه المرض وتوفي على إثره.