سبب مشروعية كفارة اليمين.. هل يجوز إخراجُ القيمة نقدًا؟ الإفتاء تجيب

هل يُجزئ في كفارة اليمين إخراجُ القيمة نقدًا بدلًا عن الإطعام أو الكسوة المنصوص عليهما، أو يلزم التزامُ ظاهر النص دون عدولٍ عنه إلى غيره؟، سؤال أجابته دار الإفتاء من خلال موقعها الرسمي.
وقالت: يجوز لمن حنث في يمينه أن يُكفِّر عنها بدفع القيمة نقدًا للفقراء بدلًا عن الإطعام أو الكسوة، وهو الأقرب إلى تحقيق مقصود الشارع من إيجاب الإطعام والكسوة في الكفارة.
سبب مشروعية كفارة اليمين
وأوضحت: شرع الله تعالى كفارة اليمين حفظًا لحرمة الأيمان أن تُبتذل، وزجرًا للنفوس أن تتساهل في إطلاقها، وجبرًا لما فات من الوفاء بعد الحِنث، فجعلها سبيلًا إلى التَّخلُّص من موجب اليمين على وجهٍ مشروع، كما قال سبحانه: ﴿قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ﴾ [التحريم: 2]. قال الإمام البَغَوِي في "معالم التنزيل" : [أي: بيَّن وأوجب أن تُكفِّروها إذا حنثتم، وهي ما ذكر في سورة المائدة].
بيان كفارة اليمين
كفارة اليمين ثلاثُ خصالٍ على سبيل التخيير: إطعامُ عشرةِ مساكين ممَّا يطعم الإنسانُ أهلَه، أو كسوتُهم بما يُعَدّ كسوةً مجزئة في العُرف، أو عِتقُ رقبةٍ مؤمنة، فإن عجز المُكفِّرُ عن جميع ذلك، صام ثلاثة أيام، على سبيل الترتيب لا التخيير، كما قال تعالى: ﴿لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89].
قال الإمام أبو بكر بن المنذر في "الإشراف على مذاهب العلماء": [أجمع أهل العلم على أنَّ الحانث في يمينه بالخيار: إن شاء أَطعَم، وإن شاء كَسَا، وإن شاء أَعتَق، أيَّ ذلك فَعَل يجزئه].
حكم إخراج القيمة في كفارة اليمين
تمسَّك جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة بظاهر النص الوارد في خصال الكفارة، فمنعوا إخراجها بالقيمة؛ لأن الكفارة عبادةٌ ماليةٌ محددة، وردت على وجهٍ مخصوص، وبيَّن الشرع مقاديرها وأعيانها، فلا يُعدل عنها إلى غيرها بالرأي والاجتهاد. قال الإمام أبو عمر بن عبد البَرِّ المالـكي في "الكافي": [مَن حلف بالله عَزَّ وَجَلَّ على شيءٍ وحنث في يمينه فعليه الكفارة.. ولا تجوز في ذلك القيمة]. وقال الإمام أبو الحسن المَاوَردِي الشافعي في "الحاوي الكبير": [لا يجوز أن يخرج في الكفارة قيمة الطعام].
وقال الإمام أبو السعادات البُهُوتِي الحنبلي في "كشاف القناع"في سياق حديثه عن كفارة اليمين: [(ولا يجزئ إخراج القيمة) لأن الواجب هو الإطعام، وإعطاء القيمة ليس بإطعام]. بينما أجاز الحنفية والإمامُ الأوزاعي إخراج القيمة في كفارة اليمين، وعدُّوه مجزئًا متى بلغت ما يُعادل الإطعام أو الكسوة؛ إذ العبرة عندهم بتحقيق المعنى لا التقيُّد بالمبنى، وبوصول النفع إلى الفقراء لا بالتزام صورة الأداء.
قال شمس الأئمة السَّرَخسِي في "المبسوط": [إنَّ أداء القيمة مكان المنصوص عليه في الزكاة والصدقات والعشور والكفَّارات جائزٌ عندنا]. وقال الإمام ابن قُدَامة في "المغني": [لا يجزئ في الكفارة إخراج قيمة الطعام، ولا الكسوة.. وأجازه الأوزاعي، وأصحاب الرأي؛ لأن المقصود دفع حاجة المسكين، وهو يحصل بالقيمة].
المختار للفتوى في حكم إخراج القيمة في كفارة اليمين وسبب الاختيار
ما ذهب إليه الحنفية ووافقهم عليه الإمام الأوزاعي هو الأَولى بالترجيح عندنا، ونراه الأقرب إلى تحقيق مقصود الشارع من إيجاب الإطعام والكسوة في الكفارة، وذلك من وجهين:
الأول: أنَّ المقصود من الكفارة إغناء الفقير وسدُّ حاجته، وذلك يحصل بالقيمة كما يحصل بالطعام أو الكسوة، بل قد يكون دفع القيمة في كثيرٍ من الأحوال أبلغ في تحقيق الكفاية، وأسرع في سد الخَلَّة، وأوفق بمصلحة الفقير مستحق كفارة اليمين، كما في "المبسوط" لشمس الأئمة السَّرَخسِي.
الثاني: أنه لا يمنع من جهة اللغة ولا العرف إطلاقُ اسم الإطعام والكسوة على من دفع إلى الفقير دراهم يشتري بها ما يأكله أو يلبسه، فيُقال فيه: قد أطعمه وكساه، وإذا كان هذا الإطلاق سائغًا عرفًا، اندرج تحت عموم اللفظ القرآني، وانتظم في دلالته، ولم يخرج عنه.
ثم إنَّ الفقير لو مُلِّك الطعام فلم يأكله، بل باعه، أجزأ ذلك اتفاقًا، وكذلك لو أُعطي كسوةً فلم يلبسها وباعها لم يمنع من الإجزاء، مع أنَّ صورة الإطعام أو الكسوة لم تتحقق على ظاهرها، فدلَّ ذلك على أن المقصود ليس حصول المطعوم أو الملبوس في ذاته، وإنما المقصود إيصال قدرٍ معيَّن من المال إلى يد الفقير، كما في "أحكام القرآن" للإمام أبي بكر الجصَّاص.