عبد المنعم سعيد: أمريكا استغنت عن الصناعة التقليدية وركزت على تكنولوجيا النخبة

قال الدكتور عبد المنعم سعيد، المفكر السياسي وعضو مجلس الشيوخ، إن الولايات المتحدة الأمريكية شهدت خلال العقود الأخيرة تحولًا استراتيجيًا جذريًا في بنيتها الاقتصادية، تمثل في التخلي التدريجي عن الصناعات التقليدية كثيفة العمالة، مثل الحديد والصلب وصناعة السفن والأسمدة، لصالح التركيز على الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا المتقدمة.
وأوضح سعيد، خلال استضافته في برنامج "نظرة" الذي يقدمه الإعلامي حمدي رزق عبر قناة صدى البلد، أن هذا التوجه الأمريكي الجديد جاء استجابة لتغيرات سوق العمل والابتكار العالمي، مما جعل الولايات المتحدة تتجه نحو صناعات أكثر تعقيدًا وربحية، وعلى رأسها تكنولوجيا الأقمار الصناعية، وصناعة الأدوية المتقدمة، والطائرات.
دونالد ترامب وقراءة خاطئة للتحول الاقتصادي
وأشار الدكتور عبد المنعم سعيد إلى أن الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لم يدرك طبيعة هذا التحول البنيوي في الاقتصاد الأمريكي، معتقدًا أن السبب الرئيسي في الأزمة الاقتصادية هو انخفاض الإقبال العالمي على المنتجات الأمريكية، ونتيجة لذلك، تبنى ترامب سياسة تجارية حمائية، تمثلت في فرض رسوم جمركية مرتفعة على الواردات، في محاولة لدعم الصناعات المحلية المتراجعة.
وأردف أن ترامب تصرّف وفق رؤية تقليدية تعتبر أن استعادة القوة الاقتصادية للولايات المتحدة تمر عبر إعادة إحياء الصناعات التقليدية، متجاهلًا أن هذه الصناعات لم تعد تمثل جوهر الاقتصاد الأمريكي المعاصر، بل إن القوة الحقيقية باتت تكمن في الابتكار، والبحث العلمي، والتكنولوجيا عالية القيمة.
صعود وادي السيليكون مقابل انهيار الصناعات التقليدية
أكد سعيد أن أمريكا سمحت بتراجع ملحوظ في الصناعات القديمة، لدرجة أن شركات عملاقة مثل جنرال موتورز واجهت أزمات حادة كادت تؤدي لانهيارها، وفي المقابل، شهدت مناطق مثل وادي السيليكون في كاليفورنيا والساحل الشرقي انتعاشًا كبيرًا بفضل احتضانها لصناعات التكنولوجيا المتقدمة والبرمجيات والذكاء الاصطناعي.
وأضاف أن هذا التحول الاقتصادي جاء على حساب الطبقة العاملة الأمريكية التي تعتمد على الوظائف اليدوية والصناعات الكلاسيكية، ما تسبب في شعور واسع بالتهميش والإقصاء داخل فئات كبيرة من المجتمع الأمريكي، خاصة في ولايات الغرب الأوسط التي لطالما شكلت قاعدة صناعية قوية.
تداعيات اقتصادية واجتماعية وغضب الطبقة العاملة
وشهدت أمريكا نتيجة لهذا التهميش تصاعدًا في الغضب الشعبي من قبل العاملين في الصناعات التقليدية، الذين شعروا بأن الحكومة تخلت عنهم لصالح الشركات الكبرى وعمالقة التكنولوجيا، وهو ما حاول ترامب استغلاله سياسيًا عبر تبني خطاب شعبوي، يدعو إلى "إعادة أمريكا إلى عظمتها"، ويركز على قضايا مثل إعادة المصانع إلى الداخل، ومحاربة الهجرة، وفرض الضرائب على الواردات.
وأوضح سعيد أن ترامب سعى لإعادة تشكيل سياسات الهجرة من جذورها، حيث خاض نزاعات قضائية مع السلطة القضائية لتعديل نصوص دستورية، منها محاولة إلغاء منح الجنسية التلقائية لأي طفل يولد على الأراضي الأمريكية، وهو ما اعتبره سعيد تصعيدًا خطيرًا ضد قيم الدستور الأمريكي.
التكنولوجيا تسيطر على المشهد وأمريكا تحتكر الصناعات المتقدمة
وأشار المفكر السياسي إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية اليوم أصبحت قوة عظمى في الصناعات المتقدمة، من خلال سيطرتها على أسواق الأقمار الصناعية، صناعة الطيران، وتطوير الأدوية عالية التقنية. وتمكنت من تحقيق قفزات علمية وتكنولوجية غير مسبوقة، ما عزز مكانتها في النظام العالمي الجديد.
واوضح أن هذا النجاح العلمي والتقني جاء مصحوبًا بثمن اجتماعي باهظ، تمثل في تقويض الصناعات كثيفة العمالة، وتفشي التفاوت الطبقي، مما مهد الطريق لظهور تيارات سياسية متطرفة تستثمر في هذه المشاعر الاجتماعية المتأججة.
النمو التكنولوجي والتحديات الاجتماعية
ولفت الدكتور عبد المنعم سعيد إلى أن مستقبل الاقتصاد الأمريكي بات مرتبطًا بالقدرة على تحقيق توازن بين التطور التكنولوجي والعدالة الاجتماعية.
وأكد أن تجاهل مطالب الطبقة العاملة يفتح المجال لاضطرابات سياسية واقتصادية قد تؤثر على استقرار النظام الأمريكي داخليًا.
ودعا إلى قراءة استراتيجية واعية للتحولات الجارية، تتفادى الوقوع في فخ السياسات الشعبوية، وتدعم التعليم الفني والتأهيل التكنولوجي، لدمج الطبقة العاملة في مسار النمو المستقبلي.