غزة بين أنياب الجوع والقصف.. قصة من رحم المعاناة (خاص)

في وسط غابة الركام التي تُسمى غزة، ووسط شلالات الدماء المتناثرة في أرجاء القطاع الفلسطيني المنكوب بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، هناك قاتل صامت، لا قِبَل لأحد به، تعاونت معه إسرائيل ليفتك بأهالي غزة الذين لقوا كل أشكال الموت.. هذا القاتل هو الجوع.
ففي أحياء غزة التي مرّت عليها يد الاحتلال المدمّرة، ووسط أنقاض المنازل والطرقات التي تشبعت بالموت أركانها، بات من الشائع أن يُغشى على رجل أو امرأة أو طفل، مرميًّا على الأرض مصابًا بالإعياء بسبب الجوع، وفي أحيان كثيرة شهيدًا، فلا قطرة ماء صالحة تدخل إلى القطاع، ولا قطعة خبز تسد رمق مليوني إنسان عانوا ما يكفي من عذابات الموت.
شهادة من رحم المعاناة
وتقول السيدة الفلسطينية، نسمة الجملة، إن الوضع حاليًّا صعب جدًا، فعلى الرغم من أنها من سكان الشمال الذين جوعتهم إسرائيل سابقًا عدة مرات لدفعهم لمغادرة أرضهم، فإن المجاعة الحالية هي الأصعب، وأكدت أن الناس، ولا سيما الأطفال، يعانون من سوء التغذية، بسبب الجوع الذي نخر في أجسادهم، بينما هناك عدد آخر استُشهد.
وأضافت نسمة خلال حديث مع “نيوزرووم”، أنها يوميًّا تبحث في الأسواق عمّا يسد رمقها هي وزوجها وطفلها - الذي ولد في الحرب و كان أول نصيبه من الدنيا صوت الطائرات والقصف ومشاهد القتل والتشريد - إلا أن الأسواق تكون خاوية على عروشها، فلا فيها ما يؤكل ولا ما يُشرب، وإن وُجد، يكون بسعر فلكي، فعلى سبيل المثال، وصل سعر كيس الطحين (25 كيلو) إلى 2500 شيكل (ما يقرب من 3000 جنيه مصري)، بينما أشارت إلى أن الكيلو الواحد وصل في بعض المرات إلى 200 شيكل، وهو الذي بالكاد يصنع 11 رغيف خبز.
وبينما تكاد أسعار السلع النادرة بالأساس تلامس السماء، لا توجد مصادر دخل للناس في قطاع غزة، فالسبل تقطّعت، ومصادر الأرزاق دُمّرت، وبات الجميع في فقر مدقع وجوع قاتل، لا سيما أن التكايا التي كانت توزع الطعام نادرًا ما تُفتح ، أو يتم توزيع المواد الغذائية فيها، بعد أن حصرت إسرائيل توزيع المساعدات على المراكز الأمريكية، التي لا تُغني ولا تُسمن من جوع، بل يُقتل الكثير من طالبي المعونة على أبوابها، إذ استُشهد نحو 900 منذ تأسيسها في أواخر مايو الماضي.
وتقول نسمة إنها، جراء الأوضاع المادية المتردية، تبيع ذهبها لتلبية احتياجات أسرتها الصغيرة حتى تنفرج الأمور وتنتهي الحرب، وتلفت الأنظار إلى أزمة تغيب عن بال الكثيرين، ألا وهي العمولة، فإذا حُوّل لها 1000 دولار من الخارج، تدفع عليها عمولة تُقدّر بنحو 450 دولارًا.
وأضافت: “هناك تفاصيل كثيرة، فنحن لا نواجه الجوع الذي لا قِبَل لأحد به فقط، بل الغلاء والعمولة وجشع التجار.. أمور كثيرة وتفاصيل يصعب شرحها”.
وعن معاناة طفلها مع المجاعة، أوضحت نسمة أن ابنها البالغ من العمر 7 أشهر، لا تستطيع إطعامه أو توفير احتياجاته القليلة، فهو لا يطلب سوى الحليب ولا يحتاج سوى حفاضة، وهذان الاثنان باتا يأتيان بشق الأنفس.
وباتت نسمة تقتصد في إطعامه، فعلى الرغم من أن أي طفل في عمره يحتاج إلى علبة حليب كل 3 إلى 4 أيام، باتت تُطعمه علبة واحدة في عشرة أيام، وتحاول إطعامه أشياء أخرى كالمرمية وأي شيء متاح، وجراء ذلك نقص وزن الطفل، وبات يدخل المستشفى بشكل متكرر بسبب ضعف مناعته الناتج عن سوء التغذية وتلوّث الهواء والماء.
أما عن الحفاضات التي يحتاجها الطفل، فاستعاضت عنها الأم (نسمة) بخرق من القماش أو بدائل، بعد أن وصل سعر الحفاضة الواحدة إلى رقم غير محتمل.
وعن مراكز المساعدات التي تزهق أرواح الجائعين بدلًا من إطعامهم، قالت نسمة إنها حثّت زوجها في أحد المرات على الذهاب، بعد أن نفذ الطعام من عندهم، إلا أنه حين ذهب تم إطلاق النار على الحشد الذي كان فيه، “لكنه رجع سالمًا لي ولطفله”.
أما مشاهد المجاعة الحالية، فتؤكد نسمة أن الناس الآن لا يجدون لقمة العيش، ويسيرون في الشوارع هياكل عظمية، متابعة: “قد ما وصفت لك، لن تحس بهذه المعاناة، فلن يشعر بها سوى من جربها”.
وحملت نسمة المواقف العربية الرسمية الواهنة، (وليس الشعبية)، كثيرًا من المسؤولية إلى جانب الاحتلال والتجار الذين وصفتهم بـ”الفجّار”، عن المجاعة الراهنة في قطاع غزة، وعبّرت عن تأييدها الكامل للمقاومة الفلسطينية، قائلة: “إن المقاومة في دم كل فلسطيني شريف، ومستحيل أي شريف حرّ أن يحمل المقاومة جرائم الاحتلال، والوضع الإنساني المتردي في القطاع، لأنه ليس ذنبها”.
وأكدت أن “طوفان الأقصى إن لم يحدث، لكان أهالي غزة سيلقون ما يلقونه حاليًّا، لأن ما يحدث مخطط له من زمان”.