زاوية شيخ البحر.. قصة صوفي ابتكر أول نظام إنذار بحري في التاريخ (خاص)

في ظلال بحر الإسكندرية، حيث تتعانق الرياح بملح الموج وتتناثر الحكايات مع زبد الشاطئ، ظهرت في القرن العاشر الميلادي أول راية سوداء ترفرف لا لتعلن حرباً، بل لتحذّر من غضب البحر.
قصة أول إنذار بحري في تاريخ البشرية
لم تكن تلك الراية شعاراً للعدوان، بل رسالة رحيمة تخبر البحارة: "احذروا، العاصفة قادمة". ويعود هذا الابتكار البديع إلى ربان صوفي مصري من أبناء الطريقة الرفاعية، عُرف لاحقاً بـ"شيخ البحرين"، سيدي علي الحنفي، أحد أعيان الصوفية البحريين في مصر.
اسمه الكامل كما ورد في مخطوطة فتح البحر هو "علي بن أحمد الحنفي الرفاعي"، من مواليد الإسكندرية سنة 926هـ/1520م، وتوفي سنة 996هـ/1588م في شبابه كان قبطاناً متمرّساً، تنقّل بين موانئ المغرب والأناضول، قبل أن ينقطع إلى الزهد والتأمل، متأثراً بمشيخة الطريقة الرفاعية، حتى صار أحد أعلامها البحريين، جامعاً بين فنون الملاحة وأسرار الولاية.
كرّس حياته لما كان يسميه "لغة البحر"، وهي مزيج دقيق من العلامات الكونية التي يرسلها البحر قبل كل عاصفة. وفقاً للمخطوطة ذاتها، لاحظ الحنفي أن العواصف القوية تسبقها تغيّرات خفية في لون المياه، تقلص في حركة الطيور البحرية، ورائحة لاذعة في الهواء تشبه النحاس المحترق. فقرر أن يمنح هذه اللغة صوتاً يُفهم: راية سوداء.
يقول الباحث مصطفى زايد لـ نيوز رووم: الراية التي صنعها بيده كانت من قماشٍ حريري ممزوج بصوف الماعز لمقاومة الرطوبة، وخُطّ عليها بالفضة عبارة "يا حي يا قيوم" لتتلألأ تحت ضوء القمر. أما الحبال فكانت من ألياف جوز الهند المشبعة بزيت الحوت، لتقاوم التعفن، والأوزان من رصاص مجوف لتثبيت الراية في وجه الريح (تحاليل تركيب الراية"، متحف الإسكندرية البحري).
أنشأ الحنفي نظاماً متكاملاً للإنذار البحري اعتمد على سبعة أبراج حجرية بُنيت على طول الشاطئ الإسكندراني، تفصل بينها مسافة ثلاثة كيلومترات، من رأس التين حتى المكس. وعندما تُرفع الراية فوق أحد الأبراج، كان معنى ذلك أن خطر العاصفة قد يأتي خلال ست ساعات. وإذا رفرفت الراية بعنف، فالخطر وشيك خلال ساعة. أما إذا أُنزِلت، فتلك علامة الأمان (سجلات الميناء الشرقي، أرشيف الإسكندرية البحري).
تشير السجلات العثمانية إلى نتائج ملموسة للنظام؛ فقد انخفضت نسبة غرق السفن بنسبة سبعين بالمئة خلال عقد تطبيق الراية، بحسب إحصائيات محفوظة بدار المحفوظات بالإسكندرية.
الرحالة العثماني بيري رئيس والراية الصوفية
الراية أثارت دهشة الزوار الأجانب، وكتب عنها الرحالة العثماني بيري رئيس سنة 1553م في كتاب البحرية قائلاً: "في ثغر الإسكندرية، رأيت راية سوداء إذا ارتفعت سكت البحر، وإذا انخفضت هدأت القلوب" (مكتبة السليمانية). أما القبطان البندقي جيوفاني فدوّن في مذكراته سنة 1578م أن "العرب قد سبقونا إلى نظام إنذار ذكي، علّمنا كيف نصغي لصوت البحر" (الأرشيف البحري البندقي).
ومن الوثائق المدهشة، تلك التي صدرت سنة 983هـ، حيث أمرت البحرية العثمانية بتعليق استخدام الراية السوداء كل يوم جمعة احتراماً لصلاة الجماعة، ما يعكس تداخل النظام مع الحياة الدينية في ذلك الزمان (ديوان البحرية العثماني).
لاحقاً، تبنّى الأسطول العثماني الراية في موانئ الشام والأناضول سنة 1585م، ثم طوّرها الإسبان إلى أعلام ملوّنة سنة 1602م، وصولاً إلى النظام الحديث الذي أقر في الموانئ الأوروبية أواخر القرن السابع عشر.
واليوم، لا تزال الراية السوداء الأصلية محفوظة في متحف الإسكندرية البحري، الطابق الثاني، بجوار مخطط الأبراج السبعة.
ضريح سيدي علي الحنفي
أما ضريح سيدي علي الحنفي، فهو قائم إلى اليوم في حارة صغيرة متفرعة من شارع رأس التين، خلف بوابة الميناء الغربي، داخل زاوية صوفية صغيرة تُنسب إلى الطريقة الرفاعية، تعرف بين أهل الحي باسم "زاوية شيخ البحر". الضريح بسيط، تغمره رائحة العنبر، ويقصده الصيادون قبل الإبحار طلباً للبركة.
كما تحتفظ دار الكتب المصرية بمخطوط "فتح البحر" في قسم التصوف، ويُعد من أندر ما كُتب في التقاء العلم البحري بالمعرفة الصوفية، متضمناً وصفاً دقيقاً لآلية العمل، وشروحات رمزية تعكس بصيرة الحنفي في فهم إشارات الطبيعة بوصفها خطاباً إلهياً لا ينطقه إلا العارفون.
وشدد على أن قصة الراية السوداء ليست فقط وثيقة فنية وإنسانية، بل برهان على أن الروح الصوفية كانت قادرة على تأمين أرواح الآخرين لا عبر الكرامات فحسب، بل أيضاً من خلال المعرفة الدقيقة، والملاحظة العميقة، والإيمان بأن كل شيء في هذا الكون يرسل إشاراته لمن يُنصت بقلبه.
واختتم: "كانت قطعة قماش سوداء تنقذ أرواح المئات.. هذه هي العبقرية البحرية العربية".