حين تُجابه النار بالذكر| كيف تعامل الصوفية مع الحرائق؟.. باحث يكشف (خاص)

لم يكن حريق سنترال رمسيس وما أسفر عنه من 4 شهداء وعددٍ من المصابين، خلاف شلل لبعض المرافق سوى باعث للكشف عن التعامل مع الحرائق عند أهل الله ومن بينهم الصوفية، فرغم انتشار أدعية الحرائق إلا أنه للصوفية أوراد خاصة في مواجهة الحرائق وهي ليست خرافة ولا بدعة، بل دعاء مشوب باليقين، وعمل محاط بالذكر، وفعل ينتمي إلى زمنٍ كانت فيه للروح مكانة أمام الجمر، وللدعاء قدرة على تصعيد النفَس نحو السماء.
كيف تعامل الصوفية مع الحرائق؟
يقول الباحث في الشأن الصوفي مصطفى زايد في تصريحات لـ «نيوز رووم»، إنه في زمانٍ لم يكن فيه جهاز دفاع مدني ولا خراطيم ماء ولا طائرات لإخماد النيران، عرفت القرى والمدن ألسنة اللهب وهي تلتهم البيوت والأسواق والزوايا، وكان أهل الله من الصوفية إذا شاهدوا النار لا يفرّون فزعًا، بل ينهضون بالقلوب والأنفاس، يتلون الأوراد، ينفثون الذكر في اتجاه النار، ويصبّون الماء وقد نوى أحدهم بسم الله، متوكلين لا متواكلين. وما بين التوسّل والذكر والتسبيح والدعاء، تظهر صورة نادرة من تعامل روحي مع الكارثة، لا ينكر الأسباب، لكنه يردّ الأمر إلى حضرة المشيئة، طلبًا للطف الخفي.
وتابع: لم يكن ذلك ضربًا من الخيال، بل مما توارثته أجيال الصوفية وسجّلته المخطوطات الصحيحة التي وصلت إلينا عبر القرون، من "الرسالة القشيرية" إلى "دلائل الخيرات"، ومن "الحِكَم العطائية" إلى "الفتوحات المكية"، ومن "كشف الأسرار" للهروي إلى "الطبقات الكبرى" للشعراني، وغيرها من مصادر موثقة ومعتبرة في عالم التصوف.
ففي مخطوط "خزانة الأسرار" للشيخ عبد القادر الجيلاني المحفوظ في مكتبة برلين، ورد نصّ صريح على أن تلاوة آية الكرسي عند رؤية النار "تُحاط بالحفظ من كل ضرر". الآية المباركة {اللّهُ لا إِلَٰهَ إِلّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كانت، وما تزال، حرزًا عند الخوف، وكان بعض العارفين لا يبدأ بها فقط، بل ينفثها باتجاه النار مستندين إلى ما ذكره الهروي في "منازل السائرين" حيث ينقل عن بعض مشايخ خراسان تكرار سورة الإخلاص ثلاثًا مع النفث جهة النار، طلبًا للسلامة ورفع البلاء.
أما في "الفتوحات المكية" لابن عربي، فقد وردت الإشارة إلى استخدام بعض الصوفية للآية: {فَأَصَابَهُم سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} (الشورى: 30) استشفاعًا، لأنهم كانوا يرون النار عقوبة قد تكون عامة، ويطلبون بها العفو العام بقلوب منكسرة.
دعاء الحرائق من السنة النبوية.. ماذا قال الرسول لتكون بردًا وسلامًا؟
وبين أنه لم تكن الذخيرة القرآنية وحدها هي السلاح الروحي في وجه النار، بل انضمت إليها الأدعية النبوية التي كان الصوفية يحفظونها عن ظهر قلب، ويرددونها في كل فاجعة. منها ما رواه أبو داود: «اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع، وأعوذ بك من الخيانة فإنها بئست البطانة، وأعوذ بك من النار فإنها بئس المضجع»، وقد ذكر مخطوط "دلائل الخيرات" للجزولي أن هذا الدعاء كان يُتلى جماعةً عند اندلاع الحرائق في فاس ومراكش وقرطبة، وكانوا يستفتحون به ثم يتلون البردة أو بعض أدعية الستر.
في "الحِكَم العطائية"، نجد مقولة لابن عطاء الله: "من داوم على ذكر يا حي يا قيوم عند المحن أُجير من الهلكة"، وقد أورد تلميذه في مخطوط "البهجة" أن هذا الذكر كان ملازمًا لأوراد الشيخ أبي الحسن الشاذلي في الأسفار والمحن، ومن ذلك احتراق سفينة كانت تقلّ بعض مريديه فنجوا بذكر هذا الاسم.
أما التسبيح بـ "سبحان الله العظيم" مئة مرة، فقد أشار إليه الإمام عبد الوهاب الشعراني في "الطبقات الكبرى" أنه كان من أوراد أهل الرباطات والزوايا في مصر السفلى، خصوصًا حين تهب الرياح الحارة التي تُشعل السعف والأخشاب.
وكان لكل شيخ ورده الخاص، وقد نُقل في مخطوط "البهجة" أن ورد أبي الحسن الشاذلي في الكروب هو: «لا إله إلا الله العلي العظيم، لا إله إلا الله الحليم الكريم»، وكان يُقال في مواجهة النار، كأنه استدعاء للحلم الإلهي على جمرة الغضب. أما ختم "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" أربعين مرة، فقد ورد في "جواهر المعاني" للشيخ أحمد التيجاني أن المريدين كانوا يُؤمرون به حين تشتعل النيران في الأسواق أو الكروم، طلبًا للسلامة بإذن الله.
وكانت هناك أفعال مقرونة بالذكر، لا تُفهم خارج سياق التوكل والعمل. فبعض الصوفية كانوا ينفثون على النار مع تلاوة آية الكرسي أو سورة الفلق، كما يذكر الهروي في "كشف الأسرار". وفي "الفوائد" لابن القيم، يُذكر أن بعض الصالحين كانوا يرشّون الماء وهم يرددون: بسم الله، اللهم اجعله بردًا وسلامًا، على غرار ما قيل لإبراهيم عليه السلام.
وقد ذكر الإمام القشيري في رسالته المشهورة أن التصوف لا يُسقِط الأسباب، وإنما يربطها بالمُسبب، وأن الذكر في الملمات لا يعني ترك العمل، بل يكون جسرًا لنجاة القلب والجسد معًا.
وشدد على أنه قد تفاوتت هذه الأوراد بين ما هو قرآني راسخ، وما هو حديث نبوي صحيح أو حسن، وبين ما هو مستحب عند القوم استحسانًا قلبيًّا. ومع ذلك، فإنها تشكل جزءًا من الميراث الروحي لأمة تعاملت مع النكبات بالأنفاس الطاهرة والقلوب الوالهة، وهي بذلك تفتح لنا بابًا لفهم أعمق لعلاقة التصوف بالطبيعة والكوارث، لا بوصفه انسحابًا، بل تفاعلًا مشبعًا بالحكمة والتسليم.