عاجل

في كل عام، حين تُقبل علينا العاشر من محرم، تهتز القلوب وتتوجه الأرواح إلى تلك الأرض الحزينة: كربلاء، حيث سُطّرت واحدة من أعظم ملاحم الثبات والصبر والتضحية في تاريخ الأمة الإسلامية. إنها ذكرى استشهاد مولانا الإمام الحسين بن علي رضي الله عنهما، وهي ليست مجرد حادثة تاريخية نقرؤها، بل هي درس حي نابض بالإيمان، يُعلّمنا كيف يكون الانتصار للحق حتى لو بدا في ظاهر الأمر أنه هزيمة جسدية.
لقد خرج مولاي الإمام الحسين عليه السلام، سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، لا طلبًا لملك ولا سعياً لسلطان، بل نهوضًا بالأمة من حالة الانحراف عن العدل، وإنكارًا للظلم، واستجابة لنداء الإصلاح. يومها قال رضي الله عنه كلمته الشهيرة: "إني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا، ولا مفسدًا ولا ظالمًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي." [رواه الطبري بإسناد حسن في تاريخه].
وهذا هو الإمام الحسين الذي ربّاه جده سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكان يحمل في قلبه ووجدانه نور النبوة، وفهم الدين في صفائه ونقائه، فكيف لا يكون سيدنا الحسين رمزًا للأمة كلها؟ قد خاض معركة غير متكافئة، لا من حيث العدد ولا العتاد، لكنه امتلك ما لا يُقهر: ضميرًا لا يُساوم، وإيمانًا لا يضعف، وهدفًا ساميًا يستحق أن تُبذل فيه الأنفس.
وبينما نعيش هذه الذكرى المؤلمة، علينا أن نتذكر أن الحزن على سيدنا الإمام الحسين لا يكون بالصراخ واللطم، بل يكون باتباع مبادئه، وإحياء رسالته في أنفسنا ومجتمعاتنا. فمذهب أهل السنة والجماعة، الذين يحبون مولانا الإمام الحسين ويجلّونه، يرون أن الحزن الحقيقي يكون بالتعظّم من هذه الفاجعة، وبتجديد العهد مع الله على أن لا نقف يومًا في صف الظلم أو الصمت عن الباطل.
ولا زلت أقول وأكرر في مثل هذا اليوم من كل عام هجري: إن مولاي الإمام الحسين رضي الله عنه أكبر من أن يكون حصرًا على فئة أو طائفة أو حتى ديانة معينة. الإمام الحسين هو كعبة القلوب والأرواح، وهو مثال العزة والإباء والصبر، بل هو قضية إنسانية، والقضية لا تُحصر .. لا تموت، ولا تُنسى.
لقد علمنا الإمام الحسين رضي الله عنه وأصحابه المخلصون في كربلاء معاني العطاء والتضحية، والحق والنبل، والكرم والإيثار، والصبر والشجاعة، والحلم… باختصار، علّمنا الإمام الحسين "الإنسانية".
لقد كانت عاشوراء يوم التمحيص والاختبار، ففي مثل هذا اليوم، العاشر من محرم سنة 61 للهجرة، ارتقى مولاي الإمام الحسين شهيدًا مع أهل بيته وأصحابه على يد الغادرين المفتونين، في معركة بين الحق والباطل، بين طلاب الدنيا وطلاب الآخرة. هكذا نرى نحن أهل السنة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين رضي الله عنه وأرضاه، نراه موقفًا خالدًا في وجه الجور، وعنوانًا للثبات على المبادئ.
وعجبًا ترى في كربلاء .. جيش يزيد بن معاوية ـ الباغي عليه لعائن الله ـ يقتل أبناء الإمام الحسين ويمنع عنهم الماء، ثم إذا حضرت الصلاة اصطفوا خلف الحسين يصلون وهو إمامهم!
وقد صدق الفرزدق حين بادره سيد الشهداء الإمام الحسين يسأله: كيف تركت أهل العراق؟ فأجابه قائلًا: "قلوبهم معك وسيوفهم مع بني أمية".
وبعد أن استشهد الإمام الحسين وأبناؤه وأبناء الإمام الحسن، وأبناء السيدة زينب، وأصحابه المخلصون، قُطِعت رؤوسهم الشريفة وطاف بها جيش يزيد بين البلدان حتى وصلوا بها إلى ذلك الطاغية، وكان في يده قضيب ينكث به ثغر الحسين! فأي جرم أعظم من هذا الجرم؟
وسِيقَت نساء آل البيت الأطهار مكبلاتٍ إلى الشام، ومنهن عقيلة بني هاشم، سيدتنا زينب رضي الله عنها، وكانت مأسورة، معها ابن أخيها الإمام علي زين العابدين، الناجي الوحيد من الذرية الطاهرة، الذي منه تسلسل نسل السادة الحسينيين حتى اليوم.
وقد ضربت السيدة زينب، رضي الله عنها، أروع معاني الثبات والعزيمة، فحياتها كلها كانت تأهيلًا لمهمة جسيمة، حملت فيها لواء الصبر بعد استشهاد أخيها الإمام الحسين وأبنائها وأبناء إخوتها. كيف لها ذلك الثبات، وقد رأت الرؤوس تُرفع على أسنة الرماح؟ كيف لقلب أن يصبر على هذا؟ لكنها ابنة الإمام علي والسيدة فاطمة، حفيدة النبوة واليقين. ويكفي مشهدها يوم كربلاء وهي تصرخ:
«يا محمداه! يا محمداه! هذا الحسين بالعراء، مزمّل بالدماء، مقطّع الأعضاء، يا محمداه! هذه بناتك سبايا، وذريتك قتلى، تسفي عليهم الرياح»… فبكت لها القلوب قبل العيون.
وكل من شارك في قتل الإمام الحسين وأهله، أصابه الله بالخزي في الدنيا قبل الآخرة، فمنهم من مات ميتة سوء، ومنهم من جُن، ومنهم من عُذب بالهمّ والغمّ حتى هلك.
ونحن في مذهب أهل السنة والجماعة، نحب آل بيت سيدنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونوقرهم ونترضى عنهم، ونبغض من ظلمهم وأساء إليهم. قال الإمام أحمد:
"إن قتل الحسين شهيدًا مظلومًا من أعظم المصائب، وعلينا أن نذكره بالحق والدعاء له والترضي عنه."
عاشوراء ليست يوم نحيب، ولكنها يوم وفاء واعتبار. إنها ذكرى تُبقي في القلب جذوة الكرامة متقدة. تذكرنا أن الإمام الحسين، ذلك النور الساطع، لم يُقتل، بل خُلد. فدمه الذي سال على تراب كربلاء، هو الذي أحيا في الناس ضميرهم، وعلمهم أن الحق يُؤخذ لا يُمنح، وأن العزّة لا تأتي إلا بصبر الرجال.
فالسلام على مولاي الإمام الحسين… السلام على الشهيد العطشان… السلام على علي الأكبر، وعبدالله الرضيع، والقاسم، والعباس، ومسلم بن عقيل، وعلى كل الشهداء من آل البيت وأصحابهم.
السلام على سيدتي زينب، عقيلة بني هاشم، سيدة الصبر وجبل العزيمة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ونوره ورضاه.
وألا لعنة الله على من قتلهم أو رضي بفعلهم أو تواطأ معهم.
رضي الله الإمام الحسين، وجعل ذكراه نورًا يُضيء طريق الأحرار، إلى يوم الدين

تم نسخ الرابط