تحديات العودة التدريجية إلى العاصمة.. حكومة “الأمل المدنية” في السودان

في خضم ظروف استثنائية يمر بها السودان، في ظل استمرار الحرب وتفاقم حدة الأزمات الأمنية والاقتصادية، وتنامي الضغوط الداخلية والخارجية لإعادة بناء مؤسسات الدولة واستكمال هياكل السلطة التنفيذية، أعلن رئيس الوزراء السوداني الدكتور “كامل إدريس” في 19 يونيو 2025، ملامح تشكيل حكومته الجديدة التي أطلق عليها اسم “حكومة الأمل المدنية” مع بدء التشكيل الجزئي والتدريجي لبعض الحقائب الوزارية في مقدمتها وزارتا الدفاع والداخلية. تأتى هذه الخطوة في إطار عملية إعادة ترتيب السلطة التنفيذية، واستكمال مؤسسات المسار الانتقالي، ومواجهة تحديات ما بعد الحرب الدائرة.
ملامح الحكومة المرتقبة
ووفقًا لدراسة أعدها المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، أوضح “إدريس” في خطابه الثاني منذ تعيينه في منصبه، أنه من المقرر أن تتكون الحكومة الجديدة من 22 حقيبة وزارية سيتم تشكيلها تدريجيًا، وعدد من الهيئات المتخصصة والمجالس السيادية، مع اعتماد معايير الكفاءة والخبرة والابتعاد عن نظام المحصصات في آلية الاختيار لشغل الحقائب الوزارية، بحيث تكون حكومة تكنوقراط مدنية، وغير حزبية تُعبر عن الأغلبية الصامتة، كنوع من الاختراق السياسي الجديد في تاريخ السودان.
بجانب ذلك، حدد آلية عمل الحكومة التي ستقوم على عدة ركائز أساسية، مع أهمية تعزيز الدور الرقابي وتحديدًا ديوان المراجع العام، في ظل الاهتمام بالشفافية والنزاهة في العمل العام. كما ستكون حكومة رشيدة من خلال دمج بعض الوزارات ذات الاختصاصات المتقاربة مثل الزراعة والري، والتجارة والصناعة، مع إنشاء مفوضيات جديدة. بالإضافة إلى ذلك، التركيز على أولويات محددة في مقدمتها؛ تحقيق السلام والاستقرار، والعودة الطوعية والاستشفاء الوطني، وتحسين الأوضاع الأمنية والمعيشية، وتهيئة البلاد لانتخابات حرة ونزيهة.
ارتباطًا بالسابق، اتخذ “إدريس” بالفعل خطوات عملية في تشكيل الحكومة الجديدة بإعلانه عن تعيين وزراء الدفاع والداخلية في 24 يونيو 2025، وهما الفريق “حسن داؤود كبرون” لمنصب وزير الدفاع، والفريق شرطة “بابكر سمرة” لمنصب وزير الداخلية، وجاءت هذه التعيينات في صدارة التشكيل الوزاري الجديد، في ظل الدور المحوري لهذه الحقائب الوزارية في تثبيت دعائم الأمن والاستقرار، وتحديدًا في المناطق التي تضررت جراء ممارسات مليشيا الدعم السريع التخريبية، حيث أكد الفريق “كبرون” عقب أدائه اليمين الدستورية في 28 يونيو 2025، حرصه على تحقيق الأمن والاستقرار والدفاع عن سيادة السودان، مع أهمية الحفاظ على وحدة الصف الوطني، والتنسيق مع أجهزة الدولة لتحقيق أهداف السودان العليا. من جانبه، أوضح الفريق “سمرة”، أن الدولة تمتلك القدرة على مواجهة التحديات الأمنية وتجاوزها، مع تأكيده على وضع وزارة الداخلية خطة أمنية إسعافية ستعمل على بسط الأمن وتقديم الخدمات للمواطنين.
تحديات ماثلة
على الرغم من الجهود الجارية لإعادة التوطين المؤسسي وتسريع خطوات العودة التدريجية إلى العاصمة الخرطوم بعد فترة من أداء الحكومة السودانية لمهام عملها من مدينة بورتسودان بشرق السودان، لكن ثمة تحديات تواجه عمل الحكومة الجديدة في السودان، والتي يمكن توضيح أبرزها على النحو التالي:
تحديات العودة التدريجية إلى العاصمة الخرطوم
تواجه ترتيبات العودة إلى الخرطوم مجموعة من العقبات والتحديات في مقدمتها؛ حالة الدمار الواسع للبني التحية بما في ذلك معظم المباني الحكومية ومقرات الوزارات التي كانت مسرحًا رئيسيًا خلال المعارك العسكرية التي دارت بين الجيش السوداني ومليشيا الدعم السريع منذ اندلاع الحرب، مما أفرز نتائج كارثية على تعطل خدمات الكهرباء والمياه، وتوقف المؤسسات التعليمية. بجانب ذلك، هواجس ومخاوف السكان المتعلقة بتحول بعض الساحات والميادين داخل الأحياء السكنية في الخرطوم إلى مقابر بديلة خلال المعارك العسكرية، مع صعوبات العودة في ظل انعدام الخدمات الأساسية.
على إثر هذه التحديات، تعمل الجهود الحكومية لإعادة تأهيل الخرطوم من خلال الخطط الإسعافية لإعادة تنشيط المؤسسات الحكومية مرة أخرى، والخطة الأمنية الجديدة لمواجهة التفلتات المتكررة من خلال تفعيل خطط الأمن الوقائي، مع عودة عمل وزارة الداخلية وبعض إدارتها من الخرطوم في إطار خطة تأمين المدينة وتفعيل دور الشرطة. فضلًا عن الخطة الشاملة لإعادة تأهيل البنية التحية المتضررة جراء الحرب وعمليات التخريب، وبدء خطط أعمال صيانة وتأهيل محطات المياه والآبار لضمان توفير المياه لكافة السكان، والاستعدادات لعودة الدراسة في جميع محليات الخرطوم، بما في ذلك إعادة افتتاح المدارس وتأهيل المرافق التعليمية، تمهيدًا لاستعادة الحياة المدنية بشكل كامل. بالإضافة إلى ذلك، الجهود الأهلية والبدائل المجتمعية للمشاركة في خطوات التعافي الشامل.
استمرار مسار المعارك العسكرية في محاور كردفان ودارفور
على الرغم من إعلان الجيش السوداني السيطرة الكاملة على العاصمة الخرطوم ومناطق ولايات الوسط (الجزيرة وسنّار)، بعد معارك عنيفة مع مليشيا الدعم السريع، لكن لا تزال المواجهات والاشتباكات المسلحة مشتعلة في جبهات ومحاور أخرى مثل كردفان الكبرى (شمال وجنوب وغرب) والتي أصبحت فيها المعارك أشبه بعمليات متواصلة من الكر والفر مع تبادل مواقع السيطرة الميدانية، واحتدام عمليات التصعيد البرية في محور غرب كردفان على وجه التحديد. أما في محور دارفور، لا تزال مدينة الفاشر محاصرة من قبل الدعم السريع. كما أعلنت الدعم السريع سيطرتها على الجزء السوداني من المثلث الحدودي بين مصر والسودان وليبيا في 11 يونيو 2025، وهي منطقة استراتيجية على حدود الدول الثلاث، وتتركز فيها أنشطة الهجرة غير الشرعية وعمليات الاتجار بالبشر، بما يفرض تحديات وأعباء إضافية في جهود تنسيق ضوابط الحدود المشتركة. بجانب ذلك الهجمات الانتقامية التي تقوم بها الدعم السريع على مخيمات الإيواء والنازحين في معسكرات زمزم وأبو شوك وغيرها، واستهدافها للبني التحية في ولايات نهر النيل والشمالية.
بالتزامن مع احتدام الوضع الميداني والعملياتي في مسارح القتال المختلفة، لم تحقق جهود الوساطة ومحاولات وقف الأعمال العدائية، أية اختراقات لعودة الأطراف المتحاربة إلى طاولة المفاوضات بشكل مباشر، أو إنهاء الحرب بالطرق السلمية، في ظل الاتهامات المتبادلة بعرقلة مسارات السلام وعدم الالتزام بوقف إطلاق النار.
مُعضلة تمثيل أطراف اتفاق سلام جوبا في الحكومة الجديدة
تواجه جهود تشكيل الحكومة الجديدة، مواقف متحفظة من قبل أطراف العملية السلمية والحركات الموقعة على اتفاق سلام جوبا وتحديدًا مسار دارفور بشأن توزيع الحقائب الوزارية، مع تمسك هذه الأطراف بالاستحقاقات التنفيذية وفقًا لاتفاق جوبا لعام 2020، حيث حدد الاتفاق 25 % من مقاعد مجلس الوزراء لصالح أطراف سلام جوبا، مع تباينات حول تفسير المادة 8 (3) من الاتفاق، حيث تتمسك هذه الأطراف بمقاعدها بموجب الاتفاق حتى نهاية الفترة الانتقالية دون انتقاص أو تجاهل حصتها في التشكيل الوزاري الجديد، مع توفيرها للبديل في حالة شغور هذه المقاعد، ومن أبرز الحقائب الوزارية التي تتمسك بها هذه الأطراف؛ وزارات المالية والمعادن والشئون الإنسانية، ومتمثلة في حركتي العدل والمساواة بقيادة “جبريل إبراهيم”، وحركة تحرير السودان بقيادة “منى أركو مناوي”.
في حين، ترى بعض القوى السياسية والمدنية أن التمسك بفكرة المحاصصة لم يعد ملائمًا مع المتغيرات والمعطيات الجديدة التي فرضتها الحرب، مع ضرورة تجاوز حالة الجمود بشأن التشكيل الوزاري لتجنب الدخول في أزمة سياسية مُركبة بجانب الحرب الدائرة، وتغليب مصلحة المرحلة على المحاصصات، في ظل محاولات جهات محسوبة على الدعم السريع، استغلال هذه الخلافات ودفعها لإعلان حالة التمرد مرة أخرى، في حالة عدم الحصول على الاستحقاقات المقررة في اتفاق سلام جوبا. في خضم هذا المشهد المضطرب، توجد محاولات من قبل رئيس مجلس السيادة “عبد الفتاح البرهان” لرأب الصدع وتقريب وجهات النظر بين قادة أطراف سلام جوبا وكامل إدريس، حيث تهدف هذه المحاولات لتفكيك حالة الجمود وبحث ترتيبات المشاركة في الحكومة الجديدة، وسط دعوات للحفاظ على تماسك العملية الانتقالية وعدم تفكيك المكتسبات السياسية للمناطق المتأثرة بالصراعات.
تعقد المشاورات السياسية حول المرحلة الانتقالية (أزمة التوافق السياسي)
تعاني القوى السياسية السودانية من حالة الانقسام الداخلي والتشظي والتنافر، في ظل إعادة التشكيل والتركيب المستمرة وحالة الخلافات حيال رؤي الفترة الانتقالية، مع تعثّر بعض القوى السياسية عن تقديم رؤى واضحة، وحالة التخبط والارتباك في قيادة بعض الأحزاب السياسية الكبرى مثل حزب الأمة القومي، والحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل. بجانب ذلك، حالة التشرذم وفك الارتباط بين التحالفات السياسية كما حدث في تحالف تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية “تقدم”، التي تفككت إلى فصليين أحدهما مساند للدعم السريع وهو تحالف السودان التأسيسي “تأسيس” والذي دعا إلى تشكيل الحكومة الموازية في مناطق سيطرة الدعم السريع. أما الآخر، التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة “صمود” بقيادة “عبد الله حمدوك”، الذي يعمل على توسيع نطاق الجبهة المدنية العريضة المناهضة للحرب، على الرغم من ذلك، لم يستطع تحقيق أي اختراقات في المشهد الحالي. أما فيما يتعلق بجهود تأسيس عملية سياسية بعد انتهاء الحرب وكيفية إدارة الفترة الانتقالية، اقترحت بعض القوى السياسية في فبراير 2025، رؤى حول فترة تمهيدية مدتها عام تسبق الفترة الانتقالية. فيما طرح تحالف “صمود” رؤيته السياسية الشاملة لإنهاء الحرب والتي شملت عدة مضامين من بينها فترة انتقالية بإدارة مدنية تمتد لعشر سنوات، بحيث تكون الفترة الأولي تأسيسية، والفترة الثانية بحكومة منتخبة، لكن تظل هذه الرؤي والمقترحات بدون توافق بين كافة القوى الفاعلة في المشهد السياسي. بالتالي، تجعل حالة التخبط والتشتت في الرؤي حول إدارة المرحلة الانتقالية، صعوبة في إيجاد التوافق السياسي المطلوب لخدمة المرحلة الراهنة التي تتطلب ضرورة توحيد الجهود والرؤى لوقف الحرب.
تفاقم حدة الأزمات الإنسانية غير المسبوقة
تشهد البلاد أزمات إنسانية غير مسبوقة، في ظل ارتفاع أعداد النازحين واللاجئين الهائلة، ومعاناة الآلاف في مخيمات اللجوء في دول مثل تشاد وجنوب السودان، مع نقص ومحدودية الخدمات الأساسية، في ظل تحذير التقارير الأممية والإغاثية من خطورة تردي الأوضاع الإنسانية، وتحديدًا على النساء والأطفال، وخاصة مع الصعوبات التي تُعرقل وصول المساعدات الإنسانية والإمدادات الإغاثية للمجتمعات المتضررة من الحرب وبشكل خاص في مناطق دارفور وكردفان. بجانب ذلك، النقص الحاد في تمويل دعم الاحتياجات الفورية. علاوة على ذلك، انهيار المنظومة الصحية وتحديدًا مع انتشار الكوليرا والحصبة وأمراض أخرى. بجانب ذلك، معاناة العديد من المجتمعات على خطوط المواجهة الأمامية بين الأطراف المتحاربة من مخاطر انعدام الأمن الغذائي. يستدعى المشهد الإنساني المتردي، ضرورة اتخاذ إجراءات عاجلة لاستعادة الخدمات الأساسية وتسريع وتيرة التعافي من خلال تنسيق جهود التعاون مع السلطات المحلية والمنظمات غير الحكومية، ووكالات الأمم المتحدة والشركاء في المجال الإنساني.
حاصل ما تقدم، تُشكل الحكومة السودانية الجديدة “بارقة أمل”، وسط أزمات وتحديات إنسانية وأمنية وسياسية متصاعدة، في ظل هدفها الرئيسي في إدارة المرحلة الانتقالية وسط هذه الأزمات والتحديات، مع متطلبات المرحلة الحالية من ضرورة تعزيز وتوحيد الجبهة الداخلية كركيزة أساسية للتغلب على التحديات الماثلة، وتسريع عملية ملء الفراغ الحكومي، وترتيب إجراءات المرحلة المقبلة المتعلقة بإعادة الإعمار، والخطط الموازية للانتقال التدريجي للخرطوم بإعادة تأهيل المؤسسات وتحديث البنية التحية. بالإضافة إلى ذلك، أولولة توحيد الجهود لوقف الحرب، وخلق فرصة مواتية لبدء الحوار السوداني-السوداني الشامل.