لماذا يتخوف الغرب من انسحاب إيران من معاهدة حظر الانتشار النووي؟

يُعد القرار الإيراني باحتمالية الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية، من أقوى الرسائل الواضحة التي تبعث بها إيران إلى المجتمع الدولي والوكالة الدولية للطاقة الذرية معاً. وبالفعل يمكن لطهران أن تنسحب من هذه المعاهدة، وذلك بموجب نص المادة رقم 10 من نصوص المعاهدة، والتي تقول بأنه “يمكن لأي دولة أن تنسحب بشروط وهي: تقديم إشعار رسمي قبل 3 أشهر، وتبرير أن مصالحها العليا مهددة”. وفي حالة استيفاء إيران لهذه الشروط، فسيكون انسحابها من الناحية القانونية انسحاباً مشروعاً، وإن كان مقلقاً للغرب أمنياً وسياسياً بشكل كبير، لأن هذه الخطوة قد تكون بمثابة تحولاً استراتيجياً خطيراً، يتجاوز الأطر الدبلوماسية التقليدية، ويقوض أسس النظام العالمي للحد من الانتشار النووي، من وجهة النظر الغربية.
تأسيساً على ما سبق، لماذا يتخوف الغرب من هذا القرار؟ وما هي التداعيات المحتملة من وجهة المجتمع الدولي علي كافة النواحي القانونية، والاستراتيجية والأمنية، والسياسية ؟
رغبة الداخل الإيراني:
ووفقًا لدراسة أعدها مركز رع للدراسات الاستراتيجية، لقد بدأ التوتر فعلياً بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية بسبب إصدار الأخيرة قراراً في 12 من شهر يونيو الجاري يتهم طهران ب”عدم الوفاء بالتزاماتها النووية”. وربما كان هذا القرار أحد الذرائع التي استُخدمت لتبرير الهجمات الإسرائيلية والأمريكية الهمجية علي منشآت إيران النووية، وذلك وفقاً لتصريحات عدد من المسؤولين الإيرانيين. ومن هنا جاءت موافقة مجلس صيانة الدستور الإيراني، المكلف بالنظر في التشريعات، على مشروع قانون لتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، كرد انتقامي من الوكالة، حيث اتهمتها طهران بالتواطؤ، حيث قامت بتقديم معلومات هامة إلى واشنطن سهلت لها توجيه ضربات إلى مواقعها النووية.
وقد يستفيد النظام الإيراني من هذا الإجراء لتعزيز الوحدة الداخلية في البلاد والوقوف خلف القيادة والتصدي للضغوط والإملاءات الخارجية، لاسيما بعد الضربات الأمريكية التي تعرضت لها المنشآت النووية الإيرانية(فوردو، نظنز، أصفهان) وبالتالي لابد من اتخاذ إجراء صارم تجاه الوكالة الدولية والمجتمع الغربي بشكل عام، وهه كانت بالفعل مطالب الشعب الإيراني في التظاهرات التي اندلعت عقب تلك الضربات. والإجراء المرتقب الآن هو تقديم مشروع القانون إلى الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان للمصادقة النهائية عليه، والذي من شأنه أن يسمح لطهران ب”الاستفادة من جميع الحقوق المنصوص عليها في معاهدة حظر الانتشار النووي وخصوصاً ما يتصل بتخصيب اليورانيوم”. كما أكد وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي أن تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية بات “ملزماً بعدما أقره المشرعون ووافقت عليه هيئة دستورية ورقابية عليا في البلاد”.
فيما ينذر هذا القرار الإيراني بتأجيج التوتر مع الغرب وإسرائيل التي تخشى من تطوير إيران لبرنامجها النووي، وبالطبع تعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية سيؤدي إلى تقييد وصول مفتشيها إلى المنشآت النووية، ما يعني المزيد من الغموض وعدم الشفافية فيما يتعلق بأنشطة طهران النووية، أي أنها ستسعي لتطوير قدراتها بعيداً عن الرقابة الدولية. وهذا القرار سيجعل من الصعب على المجتمع الدولي استئناف المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني، حيث ستكون إيران في موقف “أكثر تصلباً” وفقاً للعديد من الخبراء في هذا الشأن.
تداعيات قرار الانسحاب:
إن القرار الإيراني باحتمالية الانسحاب من معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية وتعليق التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية له العديد من التداعيات أبرزها ما يلي:
(*) من الناحية القانونية: يشكل التزام إيران بهذه بمعاهدة حظر الانتشار النووي طبقاً للغرب، الإطار الوحيد الذي يُقيد قدرتها على تطوير وامتلاك سلاح نووي، كما يمنح أيضاً الوكالة الدولية للطاقة الذرية صلاحيات الرقابة والتفتيش علي الأنشطة النووية الإيرانية. وبالتالي، فإن انسحاب طهران منها سيُسقط فعلياً الغطاء القانوني الدولي الذي يضبط برنامجها النووي، ويفتح المجال أمامها للتحرر من القيود الفنية والسياسية التي ظلت تُكبّل طموحها النووي لعقود.
(*) من الناحية الاستراتيجية والأمنية: فإن الانسحاب الإيراني يُنذر بإعادة تشكيل توازن القوى في منطقة الشرق الأوسط، عبر احتمال تسريع طهران لعملية تخصيب اليورانيوم بمستويات تصل إلى العتبة العسكرية، أي ما يتجاوز 90% من النقاء وهو المعدل اللازم لتصنيع سلاح نووي. وهنا يكمن التهديد الأكبر، إذ أن تحول إيران إلى دولة عتبة نووية أو دولة نووية فعلية، قد يدفع قوى إقليمية منافسة في المنطقة مثل السعودية وتركيا إلى مراجعة عقيدتها الأمنية، والدخول في سباق تسلح نووي موازٍ، ما يخلق وضعاً أمنياً بالغ الهشاشة في منطقة تعاني بالفعل من اضطرابات مزمنة، وتصاعد وتيرة الصراعات.
من جانب آخر، فإن هذه الخطوة من شأنها أن تُضعف من منظومة منع الانتشار النووي عالمياً، إذ أنها ستعني سابقة خطيرة لدول أخرى قد تفكر بالانسحاب من المعاهدة إذا رأت في ذلك وسيلة لتحقيق مكاسب استراتيجية أو أمنية. وبذلك، فإن انسحاب إيران سيكون له تأثير بنيوي لا يقتصر على الشرق الأوسط فحسب، بل يطال منظومة الأمن الجماعي علي المستوي الدولي ككل.
(*) من الناحية السياسية: سيكون على الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها التعامل مع معضلة الرد علي هذا الانسحاب، فهل يتم اللجوء إلى سياسة الضغوط القصوى والعقوبات الشاملة والتي قد تصبح بشكل أكثر فظاظة؟ أم تُطرح خيارات عسكرية أكثر حساسية؟ في كلتا الحالتين، فإن انسحاب إيران سيعقّد حسابات الردع، ويُقلص من فاعلية أدوات الضغط الغربية التي راهنت طويلًا على استبقاء إيران ضمن الإطار القانوني الدولي.
ولقد أرّق هذا القرار الإيراني قادة المجتمع الغربي، فخرج الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في مؤتمر صحفي في ختام قمة الدول السبع والعشرين الأعضاء في الاتحاد الأوروبي التي عُقدت هذا الشهر، ليحذّر من أن “السيناريو الأسوأ بعد الضربات التي شنّتها الولايات المتحدة على البرنامج النووي الإيراني والتي اتسمت بـفعالية حقيقية” يتمثل في “انسحاب طهران من معاهدة حظر الانتشار النووي”. وأن مثل هكذا سيناريو “سيمثل انحرافاً وإضعافاً جماعياً”، مشيراً إلى أنه وفي مسعى منه “للحفاظ على معاهدة حظر الانتشار النووي” يعتزم “التحدث خلال الأيام المقبلة مع قادة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي”. وفي وقت سابق أيضاً، دعا وزير الخارجية الألماني يوهان فاديفول طهران إلى “عدم تعليق تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إذ سيُشكل إشارة سيئة جداً”.
ختاماً، لا يُنظر إلى قرار انسحاب إيران من المعاهدة على أنه قرار تقني أو احتجاج دبلوماسي فقط، بل يُفهم ضمن إطار أوسع يتعلق بإعادة تموضع إيراني محتمل في المنطقة بشكل عام، قائم على استراتيجية الردع المتبادل وتغيير قواعد اللعبة الإقليمية والدولية، ما يستدعي استجابة متماسكة ومتعددة المسارات من قبل القوى الغربية والتي من المفترض أنها المعنية بأمن المنطقة واستقرار النظام الدولي.