مصر بعد 30 يونيو: استعادة الدور الإقليمي وتعزيز الاستقرار الداخلي

منذ تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي مقاليد الحكم في يونيو 2014، تمكنت مصر من استعادة دورها الإقليمي الحيوي في المنطقة، محققة توازناً دقيقاً بين التنمية الداخلية وتعزيز حضورها الخارجي. فقد نجحت الدولة في معالجة القضايا الإقليمية المعقدة، وعلى رأسها الملف الفلسطيني، والأوضاع في ليبيا ولبنان والعراق، ما يعكس إدراك القيادة المصرية العميق لقوة الدولة ومكانتها في حماية مصالحها الوطنية وضمان أمن المنطقة بأكملها، وفق دراسة حديثة للمركز المصري للفكر والدراسات.
ثورة 30 يونيو لم تكن مجرد احتجاج عابر، بل كانت ثورة إنقاذ حقيقية أجهضت مخاطر التفكك والحرب الأهلية التي كانت تهدد مصر، بحسب تقييم النخب السياسية. فقد مثلت تلك اللحظة نقطة تحول جوهرية أعادت البلاد إلى مسارها التاريخي كدولة وطنية قوية، ما انعكس بدوره على تعزيز قدراتها في الساحة الإقليمية بعد سنوات من التراجع.
الأساس للنهوض الداخلي والإقليمي
شكّلت الثورة رد فعل شعبيًا قويًا على حكم جماعة الإخوان الإرهابية، الذي استمر لعام واحد فقط (2012-2013)، وتميزت تلك الفترة بتدهور أمني حاد ومحاولات أخونة مؤسسات الدولة. وقد مهدت الثورة الطريق لانتخاب الرئيس السيسي الذي قاد عملية إصلاح داخلي شاملة، تضمنت جهود مكافحة الإرهاب بالقضاء على الجماعات المسلحة في شمال سيناء، بالإضافة إلى إطلاق مشروعات تنموية كبرى، أبرزها مبادرة "حياة كريمة" لتطوير الريف المصري والقرى الفقيرة، والتي ساهمت في خفض معدلات الفقر بنسبة 11% في المناطق المستهدفة.
التمسك بالهوية المصرية وتعزيز الدور الأفريقي
استندت السياسة المصرية بعد ثورة 1952 على ثلاثة أبعاد تمثل الهوية الوطنية: الإسلامية والعربية والأفريقية. وفي هذا الإطار، أولت مصر اهتماماً خاصاً بأفريقيا، داعمة حركات التحرر هناك، وكانت من أوائل الدول التي اعترفت بالدول الأفريقية المستقلة وأقامت علاقات دبلوماسية معها.
وساهمت مصر في تأسيس منظمة الوحدة الأفريقية عام 1963، التي تحولت لاحقاً إلى الاتحاد الأفريقي، ولعبت دوراً بارزاً في القارة عبر استضافتها لقمة الاتحاد الأفريقي الأولى عام 1964، وصولاً إلى رئاستها للاتحاد الأفريقي عام 2019 في عهد الرئيس السيسي، مؤكدين بذلك التزامها القوي بدعم القضايا الأفريقية وتعزيز التعاون الإقليمي.
تعليق عضوية مصر بالاتحاد الأفريقي
علق مجلس السلام والأمن التابع للاتحاد الإفريقي اليوم الجمعة (الخامس من يوليو 2013) عضوية مصر في الاتحاد الذي يضم 54 دولة، بسبب عزل الرئيس الأسبق محمد مرسي في مصر عقب ثورة 30 يونيو. وأعلن بيان رسمي أن قرر تعليق مشاركة مصر في المنظمة الإفريقية. وأكد مسؤول كبير بالاتحاد الإفريقي نبأ تعليق عضوية مصر في كل أنشطة المنظمة.
وقال ادموري كامبودزي أمين عام مجلس السلم والأمن عقب اجتماع المجلس "يقرر مجلس السلم والأمن بالاتحاد الإفريقي تعليق مشاركة مصر في جميع أنشطة الاتحاد لحين استعادة النظام الدستوري وذلك وفقاً للآليات ذات الصلة التي يكفلها الاتحاد الإفريقي." ويتبع الاتحاد الإفريقي سياسة تعليق عضوية أي بلد يشهد "تغييرا غير دستوري في السلطة". ويطبق هذا الإجراء عادة حتى العودة إلى النظام الدستوري.
وكان السفير المصري لدى أديس أبابا نفى أن يكون ما حدث في مصر قبل يومين انتزاعاً للسلطة بشكل غير دستوري. وقال السفير محمد إدريس للصحفيين عقب إلقاء كلمته أمام اجتماع للمجلس: "لا يمكن تجاهل صوت ووجود عشرات الملايين من المصريين في الشوارع والميادين في أنحاء مصر.. يجب الإنصات لهذا الصوت وفهمه واحترامه". وأضاف: "في النهاية.. الشعب مصدر كل الشرعية". وتابع السفير إدريس أن "الدور العسكري في هذا الصدد هو دعم للشعب. الجيش لم يدفع باتجاه حدوث انقلاب ولم يفرض أجندته على الشعب، ضد إرادته، بل أيد إرادة الشعب".
العودة لريادة أفريقيا ورئاسة الاتحاد الأفريقي
مع انتفاضة المصريين ضد هذا الحكم الذي لا يعكس طابع المجتمع والدولة المصرية؛ فأدت ثورة يونيو 2013 إلى تعليق عضوية مصر مؤقتًا في الاتحاد الأفريقي، حتى حدوث انتقال سلمي للسلطة، وتسلم الرئيس السيسي الرئاسة في 2014.
تبعها بجولات أفريقية مكثفة، وبعثات دبلوماسية علمت على توضيح الموقف المصري، وجولات أخرى لرئيس الوزراء المصري الأسبق إبراهيم محلب لغينيا الاستوائية وتشاد وتنزانيا وإثيوبيا؛ أدى هذا الجهد إلى عودة مصر إلى الاتحاد، مع حضور الرئيس السيسي قمتين أفريقيتين في غينيا الاستوائية وأديس أبابا.
وعلى هامش قمة غينيا الاستوائية 2014، أعلن الرئيس عن إنشاء الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في أفريقيا، لإعداد وتأهيل الكوادر الأفريقية ودعم مبادرات جديدة لتنفيذ مشروعات تنموية رائدة بالقارة. وتعكس جولته لدول غرب أفريقيا: غينيا وكوت ديفوار والسنغال 2019، عن الإدراك والرغبة في توسعة دوائر الحركة المصرية، وعدم اقتصارها على القرن الأفريقي وحوض النيل.
وتمّ الدفع مجددًا بملف سد النهضة إلى السطح، مع لقاء الرئيس بالبشير، حتى تمّ توقيع اتفاق مبادئ 2015 بالسودان. ذلك الإطار القانوني الذي ألزم إثيوبيا قانونيًا بضرورة مراعاة مصالح الأخرين، بعدما كانت ترفض في عقيدتها مبدأ الحوار من الأساس على اعتبار أنه شأن داخلي، وهو ما يؤكد أن تلك الخطوة جاءت لتنتزع اعترافًا إثيوبيًا ضمنيًا بوجوب التنسيق المشترك مع الدول ذات المصالح المشتركة في حوض النيل.
ومع تبني سياسة فاعلة، فازت مصر بعضوية مجلس السلم والأمن الأفريقي 2016، ليساعدها على ترجمة رؤيتها فيما يتعلق بالقضايا الأمنية والسلم، ودفع الرئيس بعقد مؤتمر الاستثمار الأفريقي والدفع بدبلوماسية قارية فيما يتعلق بالقضايا النوعية في قضايا المناخ الشباب والمرأة والإرهاب واللجوء والهجرة والنزاعات والصراعات والتنمية.
فعلى المستوى المؤسسي، تمّ تحويل صندوق التعاون الفني مع أفريقيا إلى الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية، عملت على تقديم الدعم الفني للدول الأفريقية. ودفعت القيادة السياسة إلى ترجمة رؤيتها السياسية إزاء أفريقية إلى أطر مؤسسية وتشريعات قانونية، تضمن تعميق التعاون المشترك. فحشدت جهود كافة الجهات والوزارات والهيئات التنفيذية لترجمة تلك الرؤية لواقع سياسات وتشريعات.
وفي ضوء الاتحاد الأفريقي، ساهمت مصر في جهود الإصلاح المؤسسي للاتحاد، ودعم أهدافه، والدفع بجهود نحو إطلاق مبادرة التجارة الحرة القارية، بما يدعم العمل الجماعي الأفريقي المشترك. وعملت مصر على دعم متطلبات الحكم الرشيد، ودعم العمل الجماعي لمكافحة الفساد، من خلال تبادل أفضل الخبرات، وبناء تقاليد راسخة في هذا المجال،
أفضت هذه الجهود إلى تولي مصر رئاسة الاتحاد الأفريقي، لعام 2019، عملت على مدار ذلك العام على تبني سياسة نشطة، عملت على استعادة جاذبية الحضور والدور المصري. فحملت مصر على عاتقها التعبير عن أولويات التنمية الأفريقية في كافة المحافل الدولية، وعملت على نقل خبرتها وتجربة تعاونها الثنائي للقارة الأفريقية. الأمر الذي تزامن مع انعقاد العديد من القمم الأفريقية الدولية، مما جعل من مصر حلقة وصل بين شركاء التنمية الدوليين والقارة الأفريقية، بما يعمل على ترجمة أولويات التنمية الأفريقية، ذلك من خلال حشد الجهود للاستثمار والبحث عن الفرص الاستثمارية مع تعدد الشركاء الدوليين، اتساقًا مع هدف حشد الجهود والتمويل لدعم الأجندة الأفريقية 2063، بما يعكس سير التحركات والرؤى المصري في ضوء الأهداف الأفريقية.
الدور المصري في القضية الفلسطينية
لطالما اضطلعت مصر بدور محوري في دعم القضية الفلسطينية، باعتبارها قضية مركزية في العالم العربي. وقد أكد الرئيس السيسي مرارًا موقف مصر الثابت الرافض لأي حلول تنتقص من حقوق الفلسطينيين أو تسعى لتوطينهم خارج أرضهم.
في خضم التصعيدات الأخيرة في غزة، شدّد السيسي على رفض مصر القاطع لفكرة توطين الفلسطينيين في سيناء، محذرًا من أن "الملايين من المصريين سيخرجون رفضًا لتهجير أشقائهم الفلسطينيين". واعتبر أن تهجير سكان غزة إلى سيناء لن يُسمح به بأي حال، لما يحمله من مخاطر أمنية على مصر وتكريس لظلم تاريخي بحق الفلسطينيين. هذا الموقف نال تأييدًا شعبيًا واسعًا، تُرجم في تظاهرات رافضة للتهجير، دعمًا لموقف وطني يضع أمن مصر وكرامة القضية الفلسطينية في الأولوية.
إلى جانب الموقف السياسي، أدّت مصر دورًا دبلوماسيًا نشطًا في احتواء العدوان الإسرائيلي على غزة وتخفيف تداعياته. فقد وصف السيسي القصف الإسرائيلي بأنه "تجاوز لحق الدفاع عن النفس" وتحول إلى "عقاب جماعي" للمدنيين. وسعت القاهرة لوقف إطلاق النار وفتح معبر رفح لتقديم المساعدات الإنسانية واستقبال الجرحى، كما استقبل مطار العريش شحنات إغاثية من عدة دول.
توسّطت مصر في وقف إطلاق النار خلال عدد من جولات القتال، أبرزها في مايو 2021، حين أشاد الرئيس الأمريكي جو بايدن بدور السيسي، واتصل به للمرة الأولى منذ توليه الرئاسة. كما تعهدت القاهرة آنذاك بتقديم نصف مليار دولار لإعادة إعمار غزة، في خطوة عززت مكانة مصر كوسيط موثوق. وقد وصف مسؤول في حركة حماس الدور المصري خلال هذه الفترة بأنه "الأكثر نشاطًا ووضوحًا".
يمزج الدور المصري بين التزام مبدئي بدعم الحقوق الفلسطينية، وتحرك براغماتي يهدف إلى منع تصعيد الأوضاع. هذا التوازن جعل من مصر فاعلًا لا غنى عنه في أي جهد سياسي أو ميداني متعلق بالقضية الفلسطينية، وخصوصًا في غزة.
شرق المتوسط وحماية الثروات البحرية (الجبهة الشمالية)
برزت منطقة شرق البحر المتوسط خلال السنوات الأخيرة كساحة تنافس إقليمي محموم على ثروات الغاز وترسيم الحدود البحرية. وانخرطت مصر بفاعلية في رسم ملامح الترتيبات الإقليمية لحماية مصالحها الاقتصادية وحقوقها السيادية في تلك المنطقة الحيوية.
تدهورت العلاقات بين مصر وتركيا خلال العقد الماضي، نتيجة تضارب المواقف بشأن قضايا إقليمية ودعم أنقرة لجماعة الإخوان. غير أن التوتر البحري بلغ ذروته عقب توقيع تركيا اتفاقًا مثيرًا للجدل مع حكومة الوفاق الليبية في 2019 لترسيم حدود بحرية تتداخل مع المياه الاقتصادية لمصر واليونان.
ردًا على ذلك، تحركت القاهرة سريعًا دبلوماسيًا وقانونيًا، ووقّعت مع اليونان اتفاقية لترسيم الحدود البحرية في أغسطس 2020، حددت بموجبها المناطق الاقتصادية الخالصة لكل طرف في شرق المتوسط. وقد اعتُبر هذا الاتفاق مكسبًا إستراتيجيًا لمصر، إذ رسّخ حقوقها في التنقيب عن الغاز وكبح محاولات التوسع التركي في المنطقة.
بالتوازي، قادت مصر جهود تأسيس منتدى غاز شرق المتوسط (EMGF)، ومقره القاهرة، بمشاركة كل من اليونان، قبرص، إسرائيل، الأردن، إيطاليا، السلطة الفلسطينية، وفرنسا (لاحقًا). ويهدف المنتدى إلى تنسيق سياسات الغاز الإقليمي، في ظل استبعاد تركيا، ما عزز موقع مصر كمركز إقليمي لتجارة وتسييل الغاز.
كما كثّفت القاهرة تعاونها العسكري مع اليونان وقبرص، من خلال مناورات بحرية وجوية مشتركة لتعزيز القدرة على حماية المصالح البحرية. وأسفر هذا التمركز الإقليمي عن بدء مصر في استغلال حقول الغاز، أبرزها حقل "ظهر"، وتحولت لاحقًا إلى مصدّر للغاز لبعض دول الجوار وأوروبا، مستفيدة من بنيتها التحتية المتقدمة في تسييل الغاز.
بهذا المزج بين الدبلوماسية والتحالفات والتطوير الاقتصادي، استطاعت مصر أن تؤمّن مصالحها في شرق المتوسط، وتتصدى لأي محاولات تهدد أمنها البحري أو الملاحة في قناة السويس.