مقام الجذب.. كيف يستقطب الصوفية الشباب إلى عالم الروحانيات؟|خاص

يعد مقام الجذب هو أحد السبل التي ينتهجها الصوفية لاستعادة الشباب من عالم المادة والتيه إلى عالم الروحانيات، فما هو مقام الجذب؟ وما هي أدوات الجذب عند الشباب للصوفية؟
مقام الجذب
مقام الجذب، في الاصطلاح الصوفي، هو حالة يصل إليها المريد حيث ينجذب نحو الله تعالى بقوة، ويسلب اختياره، ويُغلب عليه حال الذكر والانجذاب إليه. ويُعتبر مقام الجذب في التصوف أعلى من مقام السلوك، حيث يصل إليه المريد بعد أن يكون قد قطع مراحل السلوك.
والجذب لغة هو السلب والاستمالة، أي استلاب الشيء وجذبه نحوه، وفي الإصطلاح تعدد مفهومه وتعريفه ومنه أن الجذبة: هي المعرفة العيانية في أفعال الله وصفاته وذاته، ويعرف عند الصوفية أيضا : "الجذب والفيض : هي مرحلة يتخلص العارف فيها من علمه، ويعود إلى العبودية الصرفة دون حول ولا طول ، ولا قوة ، أي إلى تحقيق سلب الإرادة بالله لله ، وهي في التحقيق مقام القيومية".
ما هي عوامل الجذب الصوفي؟
يقول الشيخ مصطفى زايد الباحث المتخصص في الشأن الصوفي إنه في زمنٍ تتسارع فيه الصور وتتهاوى المعاني، يُفتِّش القلب البشري عن ملاذ، وتُطِلّ الأرواح من نوافذ التائهين بحثًا عن نور لا ينطفئ. وهنا... يعود التصوف، لا بوصفه مذهبًا ولا مدرسة، بل كضرورة وجودية، وروح هادئة وسط عاصفة الحداثة.
ولئن قيل قديماً: "لكل زمانٍ رجالٌ يُخاطبون بلسانه"، فإنّ للصوفية اليوم من يُخاطبون قلب الشاب بلغته، وقلقه، وألمه، وجماله. الجمال: المدخل الأول للقلوب الجديدة.
وتابع في تصريحات خاصة لـ «نيوز رووم»: «ليس ثمة ما يجذب الروح مثل الجمال، والصوفية في أصلها دين الجمال والذوق والأنوار. لا تُغري الشاب وعظيةٌ جامدة، ولكن تُدهشه حلقة ذكر عامرة، أو صوت منشد شفيف، أو مقامٌ مضاء في ليل المدينة. في هذه اللحظة، يشعر الشاب أن ما يراه ليس "دينًا" بمعناه المتكرر، بل حالة من الرهافة والتوازن والتجلّي».
وأضاف: السماع: لغة العصر في خدمة الروح، في عالم امتلأ بالصخب، لا تطرق الكلمات القلب إلا إن جاءت مغنّاة. والسماع الصوفي ـ من الحلاج إلى الرومي ـ كان ولا يزال جسرًا روحيًا يعبر به الباحثون عن المعنى.
لقد بدأ كثير من الشباب رحلتهم إلى التصوف من بيت شعر سمعوه في مقطع صوتي: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا…"
أو من ترنيمة قالها منشد بلهفة: "لقد صار قلبي قابلاً كل صورة…" في هذا الذوق، يبدأ الذهول، ثم الشوق، ثم الطريق.
المعنى العميق وسط السطحية
ولفت إلى أن جيل اليوم لا يطلب أجوبة جاهزة، بل يبحث عن الأسئلة العميقة التي توقظ الروح. والتصوف لا يبيع إجاباتٍ مسبقة، بل يمنح مرايا داخلية، تضع السائل أمام نفسه، ثم تنسحب في صمت.
وقال إن مفردات مثل "السر"، "الذوق"، "الفتح"، أصبحت مفاتيح شخصية للشباب، لا تحتاج إلى شروحات، لأن القلب وحده من يفهمها.
الوليّ الصوفي: الحضور الإنساني في زمن العزلة
تحوّلت زيارة المقام ـ عند بعض الشباب ـ إلى فعل وجودي. لم يعد الوليّ مجرد صاحب كرامات، بل صار "الحضور" الذي يُطمئن، والوجه الذي لا يدين، واليد التي تمتدّ دون مقابل.
لذلك، لا غرابة أن ترى شابًا يبكي على باب سيدي البدوي أو الحسين أو المرسي، لا لأنه ينتظر معجزة، بل لأنه يشعر بأن هناك من يفهمه دون أن يتكلّم.
الحبّ: الطاقة الوحيدة القادرة على إحياء القلب
في زمن الخوف والخطاب العنيف، تأتي الصوفية لتقول: "أحبّ حتى تفهم، ولا تخف، فالله أحنّ من أن يُخيفك." مشيرًا إلى أنها ليست فقط مدرسة في الحب الإلهي، بل عودة إلى أصل العلاقة بين الإنسان وربه؛ علاقة قائمة على التحنان، لا التهديد. ولهذا، فإنّ الشاب يجد في الحلاج وابن عربي والسهروردي، لا مجرّد صوفية، بل عشاقًا كبارًا.
وشدد على أن الشاب لا تؤثر فيه الخُطَب، بل التجربة. ولهذا، كان التصوف ـ بخلاف غيره ـ طريقًا يُفتح بالذوق لا بالفكر. لا يُطلب منك أن تعتقد، بل أن تذوق. أن تجلس، وتذكر، وتختلي، وتجرّب، وتنتظر النور. فمن ذاق عرف، ومن عرف، لا يعود كما كان.
الوسائط الجديدة.. النور يمرّ من الشاشة
ونبه: لم تعد الصوفية حبيسة الزوايا ولا المخطوطات. بل تسللت إلى شاشات الهواتف، واستقرت في قلب "القصيرة المصوّرة"، من فيديو صغير فيه همهمة ذكر، إلى صورة ضريح بلونٍ دافئ، أو مقطع صوتي لبيت شِعر يهزّ النفس. هكذا أصبح التصوف طيفًا يمرّ خفيفًا، فيجد قلبًا مُستعدًا له.
الخلوة.. اكتشاف الذات في عزلة مزدحمة
أما العزلة التي يعيشها الجيل الجديد ليست اختيارًا، بل اغترابًا مفروضًا. لكن التصوف يعيد تعريف العزلة، فيجعلها خلوة، أي: لقاء مع النفس في حضرة الله. وهنا، يجد الشاب نفسه للمرة الأولى لا في المرآة، بل في الصمت. وهكذا يولد الطريق.
الطريق الذي لا يموت
واختتم: لم يكن التصوف يوماً ترفًا روحيًا، بل كان ـ وسيظل ـ منقذًا خفيًا، وملاذًا حين تسقط الأسماء. فالشباب اليوم لا يبحث عن مشايخ، بل عن مرآة داخلهم. لا يطلبون دروسًا، بل حبًّا، صدقًا، دهشة، طريقًا يقودهم إلى نفوسهم، ثم إلى الله. ولهذا.. يعود التصوف من جديد، لا ليقدّم ما في الكتب، بل ليوقظ ما في القلوب. "من أراد الوصول، فليبدأ بالسؤال، لكن لا تنسَ أن الجواب... غالبًا ما يسكن في قلبك." كما قال الإمام ابن عربي