عالِمة من وراء الحجاب
زينب الطبلاوية.. قصة سيدة صوفية علّمت ثلاثة من شيوخ الأزهر |خاص

في أروقة الأزهر الشريف، لم يكن للمشايخ فقط دور في إرساء التعليم وتخريج العلماء الذين ملأوا الدنيا علمًا وبيانًا. غير أن الأرشيف، حين يُنبش بصبر العارفين، يكشف عن سطور خجولة لنساءٍ وقفن خلف ستار، يلقين العلم على من صاروا لاحقًا قادة للمؤسسة الأزهرية نفسها.
قصة السيدة زينب الطبلاوي
واحدة من تلك الوجوه التي تكاد تكون غائبة عن تاريخ التعليم الأزهري، هي السيدة زينب بنت محمد الطبلاوي، المعروفة بين تلاميذها باسم زينب الطبلاوية، العالمة الصوفية التي خرّجت ثلاثة من شيوخ الأزهر الشريف، من بينهم الإمام عبدالله الشبراوي، صاحب المؤلفات المشهورة، والشيخ محمد الحفني، شيخ الخلوات والذكر، والشيخ أحمد العروسي، المنظّر لأخلاق التصوف الشرعي في الأزهر.
هذه المقالة ليست فقط استعادة لاسمٍ منسيّ، بل هي محاولة لرسم صورة كاملة لعالمة أزهرية من القرن الثاني عشر الهجري، كانت تؤمن بأن العلم سرّ يُلقى في القلب لا في الصفحات، وأن "الحجاب" في حالتها، لم يكن عائقًا بل طريقًا للصفاء.
من هي السيدة زينب الطبلاوية؟
ولدت زينب بنت محمد الطبلاوي في منتصف القرن الحادي عشر الهجري، في بيت صوفي عريق بحي الجمالية في القاهرة. عُرفت عائلتها بنسبها إلى الجد الأكبر الشيخ عبد الرحيم الطبلاوي، أحد أبرز أعلام الطريقة الخلوتية، وكان لها إخوة من أهل القرآن، غير أنها تفرّدت بطلب العلوم العقلية والنقلية معًا، من تفسير وتصوف وفقه وحديث.
وصفتها إحدى الوثائق المخطوطة (مخطوط الأزهر رقم 456) بعبارة نادرة:"شيخة في لباس الستر، عالمة في فقه الأحوال، درّست الرجال من وراء حجاب، لا تشهد حلقاتهم ولكن يشهدون فضلها." لم تتخذ مجلسًا علنيًا في الأزهر، بل كان لها خِدر علمي خاص في دار والدها، يأتي إليه الطلاب بإذن مكتوب، ولا يدخلون عليها إلا خلف ستار من حرير أخضر، كان يُغيّب الأجساد دون أن يحجب الأنوار.
تلاميذها من شيوخ الأزهر.. حين تربّى الجبل على يد النبع
الشيخ عبدالله الشبراوي (1137–1171هـ): الإمام الذي فتح قلبه للحكم العطائية، لم يكن الشيخ عبدالله الشبراوي مجرد تلميذ عابر في حياة السيدة زينب الطبلاوية، بل كان يُعدّ نفسه من مريديها الخلص، رغم مكانته المتقدمة في الأزهر. وقد أشار في إحدى رسائله المخطوطة إلى أنه بقي يحاول فهم "الحكم العطائية" لسنوات دون أن ينكشف له سرها، حتى جلس بين يدي السيدة الطبلاوية، فشرحت له في سبع ليالٍ ما عجز عنه الشرح الظاهري في سنين.
كتب في هوامش إحدى نسخ الحكم: "قرأت كثيرًا وسمعت كثيرًا، غير أن السيدة زينب علّمتني كيف أقرأ بقلب لا بعين، ففُتحت لي أبواب الأسرار."
أعطته إجازة في تفسير الحكم وأوراده، ووضعته على أول الطريق في علم "موازين الأذكار"، وهو جدول روحاني دقيق يُحدد نوعية الذكر وساعته وتكراره، حسب حال المريد. هذا العلم انتقل بعده إلى مشايخ الطريقة الخلوتية بالقاهرة، واحتُفظ به في دار الشيخونة.
الشيخ محمد الحفني (1171–1181هـ): تلميذ الأسرار وسادن الخلوات: كان الشيخ الحفني أكثر تلاميذها قربًا منها من حيث الروح والسر، حتى إن بعض تلاميذه أشاروا إلى أنه كان يزورها أسبوعيًا دون انقطاع طوال ثلاث سنوات. في مذكراته (المحفوظة في مكتبة الأسكوريال الإسبانية، ضمن مخطوط رقم 232-صوفية)، كتب: "ما إن أجلس حتى كانت تعرف ما أريد قبل أن أسأل. وكان جوابها يأتيني بحروفٍ لم أنطق بها، كأنها تسمع نبض النية."
علّمته أوراد "الأسرار الربانية"، وهي مجموعة من الأذكار السرية التي لا تُعطى إلا لمريد بلغ مرحلة متقدمة من الطهر، تتضمن التسبيح بأسماء مخصوصة، مقسّمة على ساعات الليل، وتُتلى في خلوة تامة.
وكانت تضع له منهجًا للتربية الروحية يبدأ بالصمت، يمر بالجوع، ثم ينتهي بالحضور الدائم، دون أن يترك أعمال الدنيا. وقد أصبح هذا المنهج أساسًا في الطريقة الحفنية لاحقًا، التي اتخذت من التوازن بين العمل والذكر مذهبًا لها.
الشيخ أحمد العروسي (1183–1208هـ): فقيه الذكر بالقلب، لا باللسان: أما الشيخ العروسي، فقد التقى بها في بدايات شبابه، وكان وقتها يميل إلى الفقه الظاهري والتدقيق في النصوص. غير أن لقاءه بها بدّل مفاهيمه، وعرّفه على ما أسماه لاحقًا بـ"الفقه الباطن"، أي فقه حضور القلب.
تلقّى منها علم "الذكر الخفي"، وهو الذكر بالقلب دون حركة شفتين، ويُعدّ من أعلى درجات الذكر عند الصوفية، ولا يُعطى إلا لمن صفا قلبه من الشوائب. كما علمته الفرق بين المجاهدة والرياضة، وكتبت له إجازة قصيرة قالت فيها: "أجزنا أحمدًا بما رأينا في عينه من صدق، لا بما سمعنا من لسانه."
وكان العروسي يُخفي اسمها في مجالسه، لكنه اعترف بها في وصيته المكتوبة بخط يده (سجل الوصايا رقم 88، محكمة القاهرة الشرعية)، قائلاً: "لها الفضل في سلوك طريقي، وهي أستاذتي، وإن لم أذكرها في المجالس.
كيف كانت تُعلّم؟.. أسرار التعليم الصوفي من وراء الحجاب
تميزت طريقتها التعليمية بنظام خاص فريد، يكاد لا يوجد في غيرها من العالِمات:
1. الخِدر العلمي: كانت تُلقي دروسها خلف ستار حرير أخضر، والمريدون خارج الستار، يسمعون فقط الصوت، ولا يرون شيئًا، إيمانًا منها أن النور لا يُرى بالعين، بل يُشهَد بالقلب.
2. الإجازة المعلقة: لا تُسلّم الإجازة يدًا بيد، بل تُكتب وتوضع داخل لفافة من القماش الأبيض، تُسلَّم عبر وسيط أمين، وكان هذا جزءًا من "أدب الطريق".
3. الرمز الصوفي: استخدمت إشارات باليد لنقل إشارات دقيقة، مثل تحريك الإصبع الأوسط للدلالة على "النية"، أو قبض الكفّ كناية عن كتمان السر. هذه الرموز كان لها شرح خاص، دوّنه بعض تلاميذها في كراساتهم الخاصة، ولم يُنشر إلى اليوم
لماذا أُهمل ذكرها؟.. محاولة لفهم آليات التعتيم
يقول الباحث في التصوف مصطفى زايد: الطمس الذي طال اسم السيدة زينب الطبلاوية لم يكن وليد الصدفة، بل هو نتاج ثلاثة عوامل متداخلة:
التحفّظ الذكوري: كان من غير المألوف أن يذكر شيخ أزهري أنه تعلّم على يد امرأة، فكان الصمت ضربًا من الحياء الاجتماعي لا الإنكار العلمي.
غياب التوثيق الرسمي: لم تكن المرأة تُدرّس في الجامع الأزهر بصورة رسمية، مما جعل إجازاتها وعلومها خارج أرشيف المؤسسة التعليمية.
الضياع الوثائقي: في فترات الاضطراب الإداري بالعصر العثماني المتأخر، ضاعت كثير من الأوراق الخاصة بالنساء العالمات، ومنها أجزاء من وصايا السيدة زينب ومخطوطاتها، ولم يبقَ منها إلا ما نجا في بيوت أحفادها أو تلاميذها.
ويشدد: سيرة السيدة زينب الطبلاوية تضعنا أمام سؤال جوهري: كم من امرأة عالمة لا تزال طيّ النسيان، لأنها درّست من وراء حجاب؟ وهل آن لنا أن نعيد قراءة التاريخ بعدسة العدل لا العرف؟ لقد آن أن ندرك أن العلم لا يعرف جنسًا، وأن الفتوحات لا تُوزَّع باللحية والعمامة، بل بحقيقة الإخلاص.
"العلم نور، والنور لا يُفرق بين رجل وامرأة."