عاجل

المرض والمشقة في الصلاة… متى يُرخص لك الشرع ترك القيام؟

الصلاة
الصلاة

في ظل تساؤلات متكررة يطرحها كثير من المصلين، خاصة كبار السن والمرضى، حول جواز أداء الصلاة المفروضة جلوسًا على الكرسي، يعود النقاش الفقهي إلى الواجهة حول “ضابط المشقة” الذي تُبنى عليه الرخصة في ترك القيام وفي هذا السياق أجابت دار الإفتاء أن :المشقة التي يُشرَع معها الترخُّص بترك القيام في صلاة الفريضة هي تلك التي تتجاوز حدود المشقة المعتادة، كأن يؤدي القيام إلى زيادة الألم، أو يُسبب تأخر التعافي، أو يُخشى منه ضرر محتمل، أو يؤدي إلى فقدان الخشوع أثناء الصلاة

أنواع المشقة عند الفقهاء وضابط التخفيف في الصلاة

الأصل في العبادات أن يلتزم المكلَّف بأدائها على الوجه الأكمل، مستوفيًا أركانها وشروطها وواجباتها، وخاصة الصلاة؛ لأنها عماد الدين. غير أن الشريعة راعت أحوال المكلفين، فإذا عرض للإنسان عذر أو لحقت به مشقة معتبرة، شرع له التخفيف بما يتناسب مع حاله. ومثال ذلك ما يتعلق بركن القيام في صلاة الفريضة، فمتى عجز عنه المصلِّي عجزًا حقيقيًّا أو حكمِيًّا، جاز له الجلوس؛ لحديث عمران بنت حصين

رضي الله عنه قال: “كانت بي بواسير، فسألت النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن الصلاة، فقال: صلِّ قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب”، رواه البخاري.

وقد قرر العلماء أن التيسير في حالات العذر والمشقة أصل من أصول الشريعة الكبرى، وعبَّروا عنه بجملة من القواعد الفقهية، منها: “المشقة تجلب التيسير”، و”الحرج مرفوع”، و”الضرر يُزال”، و”ما ضاق على الناس أمره اتسع حكمه”، كما بيّنه علماء الأصول في كتبهم مثل “الأشباه والنظائر” للسبكي (1/12) وابن نُجَيْم (ص: 89).

أولًا: تقسيم المشقة عند الفقهاء

تتنوع المشقة المؤثرة في الحكم إلى نوعين رئيسيين:

النوع الأول: المشقة الملازمة للعبادة غالبًا

وهي التي لا يمكن فصلها عن العبادة، بل تكون من طبيعتها ومقصودة من الشارع الحكيم، كالجوع في الصيام، أو الجهد البدني والنفسي في الحج، أو احتمال الخطر في الجهاد. وهذه لا تبرر التخفيف، لأنها جزء من المقصد الشرعي.

النوع الثاني: المشقة العارضة القابلة للانفكاك

وهي التي ليست لازمةً لأداء العبادة في أصلها، وتنقسم إلى ثلاثة مستويات:
1. مشقة شديدة أو عظيمة:
وهي التي يخشى معها الهلاك، أو فوات عضو، أو تفاقم مرض، أو ضرر جسيم. وهذه توجب التخفيف بإجماع الفقهاء، لأن حفظ النفس مقدم على تحصيل ثواب العبادة.
2. مشقة خفيفة أو بسيطة:
وهي التي يمكن احتمالها دون ضرر حقيقي، كألم بسيط في الأصبع أو تعب محتمل. ولا توجب التخفيف، بل يُستحب أداء العبادة مع هذه المشقة؛ لشرف العبادة وخفة ما يعتريها.
3. مشقة متوسطة:
وهي التي تكون بين المرتبتين السابقتين. وتختلف فيها الأحكام بحسب شدتها وقربها من إحدى الحالتين؛ فإن كانت أقرب إلى الشديدة أوجبت التخفيف، وإن كانت أقرب إلى البسيطة لم توجبه، وقد يُنظر فيها لحال الشخص وقدرته.

وقد لخّص الإمام القَرَافي هذه الأنواع في “الفروق”  بقوله: “المشاق قسمان: أحدهما لا تنفك عنه العبادة… وثانيهما ما تنفك عنه، وهي ثلاثة أنواع… فما قرب من العظمى أوجب التخفيف، وما قرب من الدنيا لم يوجبه، وما توسط يُختلَف فيه لتجاذب الطرفين له”.

ثانيًا: ضابط المشقة التي تُسقط القيام في الصلاة المفروضة

من خلال تأمل نصوص الفقهاء في مذاهبهم الأربعة، يتبين أن التخفيف في القيام لا يكون لمطلق المشقة، بل لما زاد منها على المعتاد، ويمكن ضبطها من خلال سببين رئيسيين:

1. العجز الحقيقي أو الحكمي عن القيام:
• العجز الحقيقي: كمن لو قام سقط، لعجز بدني ظاهر.
• العجز الحكمي: كأن يترتب على القيام زيادة في المرض، أو تأخّر في الشفاء، أو خطر على النفس، ويعرف ذلك بالتجربة أو بإخبار طبيب ثقة.

وقد أشار إلى هذا الضابط:
• ابن نُجَيْم الحنفي في “البحر الرائق” (2/121): “أراد بالتعذر: الحقيقي، بدليل عطفه عليه التعذر الحكمِي، وهو خوف زيادة المرض”.
• النفراوي المالكي في “الفواكه الدواني” (1/240): “إن لم يقدر على القيام مستقلًّا أو تلحقه به مشقة شديدة، صلى جالسًا”.
• النووي الشافعي في “المجموع” (4/310): “المعتبر المشقة الظاهرة، لا أدناها، فإذا خاف زيادة مرض أو مشقة شديدة صلى قاعدًا ولا إعادة”.
• ابن قُدامة الحنبلي في “المغني” (2/106): “إذا خشي زيادة مرض أو تأخر برء، أو لحقت مشقة شديدة، صلى قاعدًا”.

2. المشقة التي تذهب بمقصود الصلاة من الخشوع:

إذا كانت المشقة تؤثر على حضور القلب في الصلاة أو تمنع الخشوع كليًّا أو تُضعفه، جاز الجلوس. وقد نص على ذلك:
• الحصني الشافعي في “كفاية الأخيار” (ص: 122): “ضابط العجز أن تلحقه مشقة تُذهب خشوعه”.
• الشربيني في “حاشيته على الغرر البهية” (1/409): “وأدنى مراتب المشقة في المرض أن تشغله عن الخشوع، أي أصله لا كماله”.
• المَرْداوي الحنبلي في “الإنصاف” (5/7): “لو خاف عدوًّا إن انتصب أو كان في مكان ضيق لا يتمكن من القيام، صلى جالسًا”.

وبناءا على ذلك

المشقة المرخصة في ترك القيام هي ما تجاوزت المعتاد من مشاق التكليف، بأن تُلحق ضررًا ظاهرًا بالجسد، أو تُفقد الخشوع في الصلاة، ويشمل ذلك المرض الشديد، كِبَر السن، أو خشية تفاقم المرض أو تأخر البرء. ولا يُنظر فيها للمشقة اليسيرة التي تحتمل عادة.

وقد لخّص هذا الضابط الشيخ محمد بن علي بن حسين في “تهذيب الفروق” (1/132) بقوله: “يجب على الفقيه أن يفحص عن أدنى مشاق العبادة المعينة، ثم يقيس ما يرد عليها؛ فإن كان مساويًا أو أشد أوجب التخفيف، وإن كان دونها فلا يُعتبر”

تم نسخ الرابط