هل المصافحة والدعاء بعد الصلاة من السنة أم من البدع؟ الإفتاء توضح

في ظل تساؤلاتٍ متكررة بين المصلين عقب الصلوات المفروضة، تبرز قضية “المصافحة بين المصلين وقول كلمة (حرمًا)” كإحدى الظواهر الشائعة داخل المساجد، والتي يدور حولها الجدل بين من يراها من مظاهر المحبة والألفة، ومن يعتبرها من البدع المحدثة. فما هو الموقف الشرعي منها؟ وهل يُعدّ السلام والمصافحة بعد الصلاة أمرًا مشروعًا؟ وفي هذا السياق أجابت دار الإفتاء أن :المصافحة بين المصلين بعد الصلاة أمرٌ مستحب ومشروع، وقد اعتاد عليه المسلمون في كثير من الأزمنة والبلدان، حتى صار من العادات الطيبة التي تُنمي روح الألفة وتُعزّز روابط المحبة والمودة بينهم.
كما يُستحب أن يدعو بعضهم لبعض بعد انتهاء الصلاة بما تيسر من عبارات طيبة؛ كقولهم: “تقبل الله”، أو “حرمًا” و”جمعًا”، وغيرها من الألفاظ المألوفة، ولا يصح إنكار ذلك شرعًا، لأن الدعاء مشروع في أصله، ومشروعيته بعد الصلاة مؤكدة وراجحة، لا سيما إن صدر من مسلم لأخيه، فهو أرجى للقبول وأقرب إلى الإجابة.
وقد جرى عمل المسلمين على ذلك منذ عهد السلف وحتى يومنا هذا، ومن أنكر ذلك أو بدّع فاعليه فقد وقع في نوع من الغلو والتشدد الذي لا يرضاه الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وآله وسلم
حكم المصافحة بين المصلين عقب الصلاة
المصافحة بين المصلين بعد انتهاء الصلاة من العادات المحمودة التي درج عليها المسلمون في العصور والأمصار المختلفة، وهي من السلوكيات التي تعبّر عن المحبة والمودة، وتعزز الألفة بين الناس. كما أنها تعتبر ترجمةً عملية للتسليم من الصلاة، حيث يتحول المسلم من العبادة الفردية إلى التفاعل الاجتماعي الحسن، وهذا هو هدف الشريعة الإسلامية في جعل العبادة تُثمر سلوكًا حسنًا وحسن معاملة.
حكم المصافحة: بين الإباحة والاستحباب
المصافحة عقب الصلاة تقع بين الإباحة والاستحباب، فهناك فريق من العلماء يرى استحبابها لما ورد في الأحاديث عن الصحابة وسنة الجماعة. فمن هذه الأدلة:
• قال الإمام البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة رضي الله عنه أنه قال:
“خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضأ، ثم صلى الظهر ركعتين والعصر ركعتين، وبين يديه عنزة، فقام الناس فجعلوا يأخذون يديه فيمسحون بها وجوههم، فأخذت بيده فوضعتها على وجهي فإذا هي أبرَد من الثلج وأطيب رائحة من المسك.”
وهذا الحديث يدل على حب الصحابة للمصافحة بعد الصلاة، حيث لمسوا بركة النبي في يديه، فتعبير عن محبة واحترام ومودة.
• وقال الإمام النووي في “المجموع شرح المهذب”:
“إن مصافحة من كان معه قبل الصلاة مباحة، ومصافحة من لم يكن معه قبل الصلاة سنة.”
وهذا يشير إلى أن المصافحة بين من صلى معًا مستحبة، كما أن المصافحة مع من لم يكن معهم في الصلاة سنة محمودة.
• كما أشار الإمام المحب الطبري الشافعي إلى أن المصافحة التي اتفق عليها الناس بعد الصلوات خاصة العصر والمغرب إذا اقترن بقصد صالح كالتودد والتبرك، فهي مستحبة.
خلاف العلماء في كراهة المصافحة عقب الصلاة
بعض العلماء رأوا كراهة المواظبة على المصافحة عقب كل صلاة، لأن ذلك قد يوقع الجهلاء في اعتقاد خطأ بأنها من أركان الصلاة أو من السنن المأثورة عن النبي صلى الله عليه وسلم. أما إذا كان المسلم مدركًا أن المصافحة مجرد سنة حسنة أو عادة اجتماعية، فلا كراهة فيها.
والأهم أن من مدَّ يده للمصافحة فلا يجوز تجاهله أو جذب يده، لما في ذلك من جرح المشاعر وكسر الألفة بين المسلمين، كما قال القاري في “مرقاة المفاتيح”:
“إذا مد مسلم يده للمصافحة فلا ينبغي الإعراض عنه بجذب اليد، لما يترتب عليه من أذى يزيد على مراعاة الأدب.”
حكم دعاء المصلي لمن يجاوره بالقبول بعد الصلاة
الدعاء بعد الصلاة لمن يجاوره من المأمومين بالقبول مثل قول:“تقبل الله”، أو “بالقبول”، ورد عليه بقول: “تقبل الله منا ومنكم” أو “حرمًا” ويرد عليه “جمعًا”، هذا من الدعاء المستحب شرعًا.
الأدلة الشرعية على استحباب الدعاء بالقبول
• قال تعالى: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ [غافر: 60]، وهذا دليل على أن الدعاء عبادة وواجبة.
• قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«إن الدعاء هو العبادة» (رواه ابن ماجة وأحمد).
• وقد رُوي عن الصحابة أن دعاء الأخ لأخيه في الله مستجاب، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه:
“إن دعاء الأخ لأخيه في الله عز وجل يستجاب.”
• استحب الشرع أن يدعو المسلم أخاه بالقبول في خواتيم الطاعات والعبادات، وذلك لما في الدعاء من طلب القبول وهو أعظم النعم.
الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الدعاء بالقبول
• قال الله تعالى:
﴿وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا﴾ [البقرة: 127].
وهذا دليل صريح على أن الطلب من الله قبول العبادة أمر مشروع.
• وعن مريم عليها السلام:
﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾ [آل عمران: 35].
• عن ابن عمر رضي الله عنهما، قال:
جاء غلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له:
“إنّي أريد هذه الناحية الحج.”
فرافقه النبي ودعا له، وعندما عاد الغلام سلم على النبي، فقال له النبي:
“تقبل الله حجك وكفر ذنبك.”
وهذا يدل على الدعاء بالقبول بعد أداء العبادة.
ما ورد عن السلف الصالح في الدعاء بقبول العبادة
• عن جُبَير بن نفير قال:
“كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا التقوا في يوم العيد يقول بعضهم لبعض: تقبل الله منا ومنك.”
• عن عبد الله بن يوسف قال:
“سألت الليث عن قول الناس في الأعياد: تقبل الله منا ومنكم، فقال إن الناس كانوا يقولون ذلك لبعضهم.”
• وعن محمد بن حرب قال:
“صلى إلى جانبي محمد بن زياد يوم عيد، فلما سلم الإمام قال: تقبل الله منا ومنكم، وزكى أعمالنا وأعمالكم، فقلت له: هل كان السلف يفعل ذلك؟ قال: نعم.”
• قال الإمام ابن قدامة في “المغني”:
“ولا بأس أن يقول الرجل للرجل يوم العيد: تقبل الله منا ومنك.”
أهمية الحرص على قبول الطاعات والعبادات
الأصل أن يكون المسلم مهمومًا بقبول عمله عند الله، لا يكتفي بالأداء فقط، بل يخاف ألا يتقبل الله منه، وهذا هو حال المتقين الذين يقول الله فيهم:
﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾ [المؤمنون: 60].
• عن عائشة رضي الله عنها قالت:
سألت النبي عن قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ﴾، فقال: “ليس الرجل يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو مع ذلك يخاف الله، ولكن الذي يصوم ويصلي ويتصدق ويخاف أن لا يقبل منه.”
• وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
“كونوا لقبول العمل أشد همًا منكم بالعمل.”
وهذا يدل على أهمية مراقبة النية وطلب القبول دائمًا، وأن الدعاء بالقبول من العبادات التي ينبغي المواظبة عليها