عاجل

في أعماق الحضارة المصرية القديمة، وبين جدران المعابد والمقابر التي تحمل أسرار آلاف السنين، كان للذبح والأضاحي مكانة استثنائية تروي قصة إيمان وتقديس. لم يكن تقديم القربان مجرد طقس عابر في حياة المصري القديم، بل كان وسيلة للتقرب من الآلهة، وطلب رضاهم، أو شكرهم على النعم التي أُغدقت عليه.

ومن بين النقوش والرسوم التي خلدها الفنانون على جدران المعابد، يمكن أن نرى مشاهد عالية التنظيم والرهب، يظهر فيها الكهنة وهم يُقدمون ثورًا أو كبشًا أو طائرًا أمام تمثال الإله. كل تفصيلة في هذه الطقوس كانت تخضع لنظام دقيق يبدأ بتطهير الأضحية وتهيئتها، مرورًا بعملية الذبح، ووصولًا إلى تقديم أجزاء منها أو إحراقها كقرابين مقدسة.

ولم تكن الاختيارات عشوائية، إذ خضعت الحيوانات لفحوصات دقيقة للتأكد من خلوها من أي عيب جسدي. فقد آمن المصري القديم أن الأضحية يجب أن تكون طاهرة كي تُقبل من الآلهة، لأن الطهارة كانت المدخل للقبول والبركة.

وتنوعت الذبائح وفق الإله الذي تُقدم إليه، فكان الكبش رمز الخصوبة والقوة يُقدم للإله آمون رب طيبة، بينما نال الثور "آبيس" مكانة رفيعة في طقوس مدينة ممفيس وارتبط بالإله بتاح. ولم تغب الطيور عن هذه المشاهد، خاصة الإوز، الذي كان نجم الاحتفالات الدينية والعائلية، وكان يُقدم أحيانًا كقربان للروح في رحلة ما بعد الموت.

المثير أن معنى الذبح عند المصريين لم يكن فقط تقديم اللحم أو القربان، بل كان رمزًا عميقًا لإعادة ضبط توازن الكون: فالحيوان المذبوح قد يرمز للفوضى، بينما يرمز طقس الذبح للانتصار عليها وإعادة الحياة لسيرتها الأولى. وكان للكهنة والملك دور الوسيط بين البشر والآلهة، وهم وحدهم من يملكون سلطة إتمام هذه الطقوس المقدسة، التي ربطها الفكر المصري القديم بمفهوم الخلق وتجدد الزمن، معتقدين أن سفك الدم الطاهر في لحظة معينة يعيد للحياة دورتها المقدسة.

لم تقتصر فكرة الأضحية على الديانات والمعابد، بل تسللت إلى تفاصيل الحياة اليومية والمناسبات الاجتماعية الكبيرة، من أعراس وولادات وحصاد وحتى جنازات. فلكل مناسبة أضحيتها الخاصة، تُقدم بنية الشكر أو تقديس اللحظة أو طلب البركة والخير.

وفي أجواء الأعياد الكبرى كعيد "الأوبت"، كانت الولائم العامة تجمع الناس حول موائد اللحم المقدس في صورة بديعة من التكافل الاجتماعي والفرح الجمعي. وما يلفت النظر أن كثيرًا من هذه الطقوس لم تندثر، بل ظلت حيّة في وجدان المصريين، وتظهر بقوة في احتفالات عيد الأضحى حتى يومنا هذا—من العناية في اختيار الأضحية إلى مراعاة الطهارة ونية القربان وتوزيع اللحم على الفقراء.

هكذا وضع المصري القديم بُذرة طقوس خالدة تجاوزت حدود الزمن، وجعل من الأضحية رمزًا ساميًا للتجدد والعطاء والطهارة، شاهدة على حضارة احترمت الحياة والموت في آن واحد.

تم نسخ الرابط