باحث: الحجُّ عند الصوفية رياضة نفس وتهذيب قلب وعبور روحي إلى الله|خاص

في دُروبِ السالكين، لا يكون الحجُّ مجرّدَ رحلةٍ إلى البقاع المقدسة، بل هو عبورٌ روحيٌّ إلى الله، حيث تتحوّلُ المناسكُ إلى رموز، والمواقفُ إلى مقامات، والخُطى إلى خلوات قلبية. هذا هو الحجّ في عيون أهل التصوف، كما ظهر في مخطوطاتهم ومصنّفاتهم، وأودعوه في كلماتهم النورانية التي توارثها القلوب لا الأوراق.
يقول الباحث الصوفي مصطفى زايد لـ نيوز رووم أن الظاهر والباطن في فقه الصوفية للحج، يُفرَّق بين حجِّ الجسد وحجِّ القلب، فأداء المناسك الظاهرة هو الفرض، لكنَّ الحجّ عند العارفين لا يُؤتى ثمره إلا إذا اقترن بتوجُّهٍ باطنيٍّ كامل. يقول الإمام أبو حامد الغزالي في إحياء علوم الدين:"الحجُّ موسمُ القلوب، وفيه تُقبَلُ التوبة، وتُكشَفُ الغُمّة، وتُستجابُ الدعوة... فمن حجّ ولم يُغفَر له، فمتى يُغفَر له؟"(الإحياء، ج1، ص242)، ويذهب ابن عطاء الله السكندري إلى ما هو أعمق، حين يقول في الحكم العطائية: "ما حجَّ من لم يَزِدْ حجُّه على سفرِه، وما زادَ حجُّه على سفرِه إلا بأن يُخرِجَه الحجُّ عن صفاتِه"،(الحكمة 78)، ففي نظرهم، لا يكون الحجُّ تامًّا إلا إذا غيّر صاحبه، لا من ظاهره فحسب، بل من باطنه أيضًا.
قال الباحث الصوفي: ينظر مشايخ التصوف إلى الإحرام كتجرُّد رمزيّ، لا من اللباس فحسب، بل من كلّ ما يشدّ النفس إلى غير الله. الشيخ عبد القادر الجيلاني، في الفتح الرباني، يكتب: "الحاجُّ ينبغي أن يكونَ خاليَ اليد من الدنيا، خاليَ القلب من الغفلة، خاليَ السرِّ من النظر إلى غير الله"،(الفتح الرباني، ص189)، وكأنّ الوقوف بعرفات هو وقوفٌ أمام الحقيقة الأولى، وحين يُخلع الإحرام، يُخلَع معه كلّ ما سوى الله من تعلق.
مجاهدة النفس على طريق الله
أضاف الباحث الصوفي مصطفى زايد: والحجُّ عند الصوفية ليس نزهةَ جسدٍ، بل رياضةُ نفسٍ، وتهذيبُ قلب. يقول الشيخ أحمد زروق في قواعد التصوف:"الحجُّ سفرٌ إلى الله، وهو سفرٌ عن الأوصاف الذميمة، فمن لم يَسْفَرْ عن أوصافه، فما سافر إلى ربه"(القاعدة 42، ص73)، ويضيف سيدي أحمد الرفاعي في البرهان المؤيد:"الحاجُّ إذا كان صادقًا، رجع من حجِّه كيوم ولدته أمه"(البرهان المؤيد، ص112)، وهكذا يتبيّن أن للحجّ مفعولًا تطهيريًّا عميقًا، شرطه الصدق في النية، والصفاء في القلب، ومجاهدة النفس عن الهوى.
وأوضح «زايد» : من أبدع ما قاله أهل الله في الحجّ، أنه مقام المحبة، لا مجرد عبادة. في الفتوحات المكية، يكتب الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي:"الحجُّ وقوفٌ بين يدي المحبوب، فمن وقف بقلبه مع الله، فقد أدرك سرَّ الحج"(الفتوحات، ج2، ص356)، أما جلال الدين الرومي، فيفيض في رمزيته الشعريّة، حيث يقول في المثنوي: "كلُّ الطواف حول البيت حركاتٌ ظاهرة، ولكن سرُّ الطواف هو الدوران حول قلبك بالذكر"(الدفتر الأول، بيت 1203)، كأنّ الكعبة ليست سوى رمزٍ لقلبِ المؤمن، فإذا طاف العبد بقلبه حول معاني التوحيد، أدرك المعنى الباطنيّ للطواف.
وقال «زايد» نجد بين السطور الصوفية إشارات وإلماحات تنفذ إلى أعماق المعنى. منها قول أحدهم:"إنما الكعبةُ حجرٌ، ولكن القلب بيتُ الله، فإذا أتيتَ الكعبةَ بقلبٍ خَرِب، فما بلغتَ البيتَ بعدُ".، وقول الإمام الجنيد:"الحجُّ سِرٌّ بين العبد وربّه، لا يُدرَكُ بالعين، بل باليقين"، هكذا تكشف لنا كتب القوم أن الحج ليس نهاية الطريق، بل بدايته. هو بابٌ من أبواب الدخول على الله، يُفتحُ لمن طرقه بقلبٍ منكسر، وعينٍ باكية، وروحٍ قد تعلّقت بالمحبوب الأوحد.
واختتم «زايد» حديثه بأن الحجُّ في التصوف ليس عبورًا مكانيًّا، بل تحوّلٌ وجوديّ. فكما تخلع النفس ثوب الإحرام، تخلع معها رداءَ الهوى، وكما تقف بعرفة، تقف في عتبة المعرفة، وكما تطوف بالبيت، تطوف حول مركز التوحيد، ذلك هو الحجُّ عند أهل الله: مسيرٌ إلى مكة، لكن الهدفَ وجهُ الله.