البخاري أعجوبة زمانه.. كيف وثق السُّنة بسند صارم من الصحابة حتى التابعين؟

يعد الإمام البخاري صاحب الجامع الصحيح للسنة النبوية المطهرة، واحدًا من أكثر الرجال جدلًا خاصة بين الذين يثبتون له العلم وآخرين يكذبون وينكرون جهده إلا أنه يظل أعجوبة زمانه، فكيف استطاع أن يوثق السنة؟
جهود البخاري في توثيق السنة
قال الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن توثيق السنة النبوية جرى بمنهج علمي دقيق منذ عهد الصحابة واستمر حتى عصور التابعين وتابعيهم، مشيرًا إلى أن الإمام البخاري كان أعجوبة زمانه في علم الحديث.
وأوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومفتي الجمهورية الأسبق، خلال بودكاست "مع نور الدين"، المذاع على قناة الناس، اليوم الثلاثاء، أن بعض الفرق التي لم تُعجبها بعض الأحاديث أو المرويات، بدأت تُهاجم الصحابة – وعلى رأسهم سيدنا معاوية بن أبي سفيان – ولكن علماء الأمة وقفوا بالمرصاد لهذا العبث.
وقال: "ما دام الصحابي روى عن رسول الله، فالأصل فيه الثقة والعدالة، الجيل الذي جاء بعد الصحابة، وهو جيل التابعين، قُسِّم إلى ثلاث طبقات: كبار، وأواسط، وصغار، أما الكبار مثل سعيد بن المسيب، فقد رأوا العشرة المبشرين بالجنة، وهؤلاء ألحقوا بالصحابة من حيث التوثيق."
وأشار إلى أن الإمام مالك حين جمع حديثه في «الموطأ»، أسس لمرحلة عظيمة من جمع الحديث، ثم جاء الإمام الشافعي فطوّر هذا المسار، وظهر تلميذه المزني الذي اختصر الفقه من دون الأحاديث، ليأتي بعده الإمام البيهقي ويكتب «السنن الكبرى» في عشرة مجلدات، مستندًا إلى فقه الشافعي وتوثيق الأحاديث، فقال: "كل كلمة للشافعي وُجد لها دليل من الكتاب أو السنة، والبيهقي تتبّعها وأثبتها بدقة."
وعن الإمام البخاري، قال الدكتور علي جمعة: "البخاري كان يحفظ 600 ألف حديث بإسناد، وانتقى من بينهم نحو 7,000 حديث ليضعها في صحيحه، منها 2,600 غير مكرر، وكان أقصر إسناد عنده ثلاثي: عن التابعي عن الصحابي عن النبي، صلى الله عليه وسلم، وسمّي هذا بـ«الثلاثيات»".
السنة ليست مجرد رواية بل علم متكامل بالأسانيد
أكد الدكتور علي جمعة، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومفتي الجمهورية الأسبق، أن المنهج النقدي في توثيق السنة النبوية لم يتوقف عند الإمام مالك بن أنس، بل استمر وتطور من بعده بشكل كبير.
وأوضح عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومفتي الجمهورية الأسبق، خلال بودكاست "مع نور الدين"، المذاع على قناة الناس، اليوم الثلاثاء، أن الإمام مالك، مؤلف الموطأ، كان علَماً في هذا المجال، وقد تتلمذ على يده علماء كبار، أبرزهم الإمام الشافعي ومحمد بن الحسن، كما عاصر أئمة آخرين مثل سفيان الثوري وسفيان بن عيينة.
وأضاف أن عملية جمع الأحاديث وتوثيقها توسعت وانتشرت مع تعدد الأسانيد والرواة، مشيرًا إلى أن الحديث الواحد قد يُروى عن عشرات الصحابة، وكل صحابي يرويه عنه عشرات من التابعين، ما أدى إلى ثروة إسنادية ضخمة شكّلت أساس علم الحديث.
وأشار إلى أن القرن الثاني الهجري شهد ذروة هذه الجهود، حيث ظهرت فيها مسانيد لكبار العلماء، بل وحتى للخليفة عمر بن عبد العزيز، مما يعكس اهتمام الأمة بالسنة كمصدر أصيل للتشريع.
وتابع بأن الإمام الشافعي، الذي وُلد في منتصف القرن الثاني الهجري، أسس لعلم أصول الفقه وارتبط بقوة بتوثيق السنة، حيث وضع كتابه "الأم"، وهو بمثابة توثيق فقهي مدعّم بالأحاديث.
ولفت إلى أن تلميذ الشافعي، الإمام المزني، اختصر الفقه في "مختصر المزني" دون ذكر الأحاديث، فجاء الإمام البيهقي لاحقًا ليؤلف "السنن الكبرى"، الذي جمع فيه أدلة كل كلمة في مختصر المزني، حتى صار مرجعًا هائلًا في الجمع بين الفقه والحديث.
وأكد أن القرن الثالث الهجري كان نقطة تحول في علم الجرح والتعديل والقبول والرد، حيث جلس العلماء لتحديد من هم الثقات من الصحابة والتابعين، وأسسوا لقواعد نقد الرواية بشكل منهجي.
وأردف: "السنة النبوية لم تُروَ مجردة، بل نُقلت مع فقهها، وأُسِّست لها ضوابط علمية دقيقة منذ القرن الأول، ثم تطورت مع الإمام مالك، وترسخت مع الشافعي وتلاميذه، وظل علماء الأمة يعضدونها بالعلم والنقد حتى صارت كما نراها الآن: علمًا له أصول وقواعد، ومنهجًا له تاريخ وجذور."