قصر الصلاة في الحج رخصة أم عزيمة.. وهل تجوز لحجاج أهل مكة؟

مع دخول الأيام المباركات ونفحات الحج يتساءل الكثير من الحجاج عن حكم قصر الصلاة في الحج وما شروطه ومدى صحة الصلاة للحاج وذلك بالتزامن مع مشقة السفر والمناسك وخاصة يوم الوقوف بعرفة.
وعن قصر الصلاة في الحج تقول دار الإفتاء عبر موقعها الرسمي في فتوى سابقة إن الحاج الذي بلغت مسافة سفره مسافة القصر ولم يَنْوِ الإقامة بمكة عند الدخول ولم تبلغ إقامته فيها قبل خروجه ليوم التروية في منى -الثامن من ذي الحجة- المدة التي يكون بها مقيمًا، وهي أربعة أيام غير يومي الدخول والخروج، له أن يقصر الصلاة في أيام منى وجميع أيام المناسك، وذلك باتفاق الفقهاء؛ لأنه لا يزال متلبسًا بالسفر، وكذلك الحاج الذي ينوي الخروج من مكة بعد انتهاء مناسكه لمسافة تبلغ مسافة القصر، له أيضًا أن يقصر الصلاة في يوم التروية وما بعده من أيام المناسك؛ لأنه قد تلبَّس بالسفر ولم يَنْوِ الإقامة في مكان من أماكن المناسك، كما لم تبلغ إقامته في مكان منها مدة الإقامة؛ كما ذهب إليه فقهاء الشافعية والحنابلة.
وأضافت دار الإفتاء أن الحاج الذي هو من أهل مكة أو مِنى أو لم تبلغ مسافة سفره مسافة القصر فيجوز له أن قصر الصلاة في الحج في جميع أيام المناسك، إلا في المكان الذي هو بلده أو كانت فيه إقامته، كمن هو من أهل منى أو فيها محلّ إقامته، فليس له أن يقصر الصلاة بمِنى؛ وذلك على ما ذهب إليه فقهاء المالكية ومن وافقهم، والمستحب له أن يُتِمَّ الصلاةَ خروجًا من الخلاف.

بيان مفهوم السفر ومفهوم قصر الصلاة
قال العلامة الشريف الجرجاني في "التعريفات" (ص: 119، ط. دار الكتب العلمية): [السفر في اللغة: قطع المسافة، وشرعًا: فهو الخروج على قصد سيرة ثلاثة أيام ولياليها، فما فوقها بسير الإبل ومشي الأقدام] اهـ.
وعليه فالسفر هو: الخروج على قصد قطع مسافة القصر الشرعية فما فوقها، وهو الذي تترتب عليه بعض الرخص الشرعية، كقصر الصلاة الرباعية "الظهر، والعصر، والعشاء" فتُصَلَّى ركعتين.
وقد عرَّف الشريف الجرجاني القصر فقال في "المرجع السابق" (ص: 176): [القصر في اللغة: الحبس، يقال: قصرت اللقحة على فرس، إذا جعلت لبنها له لا لغيره، وفي الاصطلاح: تخصيص شيء بشيء وحصره فيه] اهـ.
هل قصر الصلاة في السفر رخصة أو عزيمة؟
المقرر شرعًا أن قصر الصلاة الرباعية مشروع في السفر بالشروط السابقة إلا أن الفقهاء اختلفوا هل هو رخصة يجوز الإتيان بها وتركها أو هو عزيمة فلا يصح تركه؟
فذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن القصر في السفر رخصة، إن شاء أخذ بها وإن شاء تركها:
قال الإمام القرافي المالكي في "الذخيرة" (1/ 364، ط. دار الغرب الإسلامي): [القصر رخصة في السفر] اهـ.
وقال الإمام أبو الحسن الماوردي الشافعي في "الحاوي الكبير" (2/ 374، ط. دار الكتب العلمية): [القصر رخصة في السفر] اهـ.
وقال العلامة ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (2/ 198، ط. مكتبة القاهرة): [(وللمسافر أن يتم ويقصر، كما له أن يصوم ويفطر). المشهور عن أحمد، أن المسافر إن شاء صلى ركعتين، وإن شاء أتم.. ولنا قول الله تعالى: ﴿فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [النساء: 101] وهذا يدل على أن القصر رخصة مخير بين فعله وتركه، كسائر الرخص] اهـ.
وذهب فقهاء الأحناف إلى أن القصر في السفر عزيمة وواجب؛ لأنهم يرون أنَّ فرض المسافر في الصلاة الرباعية ركعتان لا يزيد عليهما؛ قال العلامة السرخسي الحنفي في "المبسوط" (1/ 239، ط. دار المعرفة): [القصر عزيمة في حق المسافر عندنا] اهـ.

المدة التي يجوز للمسافر أن يقصر فيها الصلاة
أوضحت دار الإفتاء أن المسافر إذا صح سفره يظل على حكم السفر فيما يخص الصلاة من قصر وجمع، ولا يتغير هذا الحكم إلا إذا نوى الإقامة، أو دخل وطنه، فحينئذٍ تزول حالة السفر، ويصبح مقيمًا تنطبق عليه أحكام المقيم، والمدة المعتبرة في الإقامة هي أربعة أيام غير يومَي الدخول والخروج، فإذا نوى الإقامة أربعة أيام فأكثر غير يومي الدخول والخروج يتم صلاته ولا يجمعها، ويبدأ التعامل كمقيم من أول يوم بعد يوم الوصول، وأما إن نوى الإقامة أقلّ من ذلك أو لم ينوِ، فيظل على رخصة القصر والجمع إلى أن يُتِمّ أربعة أيام، ولا يحسب من الأيام يومَا الوصول والرجوع.
والقصر غير لازم للجمع، فيمكن للمسافر أن يقصر الصلاة دون أن يجمعها، وأن يجمع بين الظهر والعصر فيصليهما في وقت أيهما شاء، وكذلك المغرب والعشاء يجمع بينهما فيصليهما في وقت أيهما شاء، وصلاتا الصبح والمغرب لا تقصران.
ويجوز للمسافر أن يجمع مع قصر الرباعية، ويجوز له أن يجمع مع الإتمام من غير قصر، وله أن يجمع جمع تقديم أو تأخير، إلا أنه في جمع التأخير يكون عليه أن ينوي قبل خروج وقت الصلاة الأولى أنه يجمعها تأخيرًا مع الصلاة الثانية في وقتها.
وعلى ذلك: فالرخصة للمسافر سفرًا تحققت فيه شروط الترخص أن يجمع ويقصر إن نوى الإقامة أقل من أربعة أيام، أما إن نوى الإقامة أربعة أيام أو أكثر فإنه يتم من أول يوم بعد يوم الوصول.
أما المسافر الذي لم ينوِ الإقامة بعد وصوله، وكانت له حاجة يتوقع انقضاءها في أي وقت، وأنه متى قضيت رجع من سفره ولم ينوِ الإقامة، فله أن يقصر الصلاة ثمانية عشر يومًا صحاحًا.

شروط قصر الصلاة في السفر
يشترط في السفر الذي تقصر فيه الصلاة عدة أمور، هي:
- أن يقصد المسافر عند ابتداء السفر موضعًا معيَّنًا، فلا قَصْرَ لهائم على وجهه لا يدري أين يتوجه؛ قال العلامة الخراشي المالكي في "شرحه لمختصر خليل" (2/ 60، ط. دار الفكر): [قال مالك في المجموعة في الرعاة يتبعون الكلأ بمواشيهم أنهم يتمون، اللهم إلا أن يعلم كلٌّ من الهائم والراعي قطع مسافة القصر قبل البلد الذي يطيب له المقام به وقبل محل الرعي يريد وقد عزم عليه عند خروجه فيقصر حينئذٍ] اهـ.
وقال الإمام النووي في "منهاج الطالبين" (1/ 45، ط. دار الفكر): [ويشترط قصد موضع معين أولًا، فلا قصر للهائم وإن طال تردده] اهـ.
- وأن لا يكون السفر سفرَ معصية، فمن كان عاصيًا بسفره -كقاطع طريق وناشزة- فلا يجوز له القصر، فإن العاصي لا يُعَانُ على معصيته؛ قال العلامة الحطاب المالكي في "مواهب الجليل في شرح مختصر خليل" (2/ 140، ط. دار الفكر): [وقال ابن ناجي في شرح "المدونة": أما سفر المعصية فالمشهور أنه لا يقصر صاحبه] اهـ.
وقال العلامة الرملي في "نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج" (2/ 263، ط. دار الفكر): [(لا يترخص العاصي بسفره كآبق وناشزة) وقاطع طريق ومسافر بلا إذن أصلًا يجب استئذانه فيه ومسافر عليه دين حالٌّ قادر على وفائه من غير إذن غريمه، إذ مشروعية الترخُّص في السفر للإعانة والعاصي لا يُعَان؛ لأن الرخص لا تُنَاط بالمعاصي] اهـ.
وقال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (1/ 505، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا يترخص في سفر معصية بقصر ولا فطر، ولا أكل ميتة نصًّا)؛ لأنها رُخص، والرُّخص لا تُناط بالمعاصي] اهـ.
- وأن يبلغ السفر المسافة المحددة شرعًا أو الزيادة عليها، وهي مسافة أربعة بُرُد؛ لما روى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «يَا أَهْلَ مَكَّةَ، لَا تَقْصُرُوا الصَّلَاةَ فِي أَدْنَى مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ مِنْ مَكَّةَ إِلَى عُسْفَانَ» أخرجه الدارقطني والبيهقي والطبراني، وضَعَّفه ابن حجر العسقلاني، وكان ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما يقصران ويفطران في أربعة بُرُد. ذكره الإمام مالك في "الموطأ" بلاغًا، وصححه ابن حجر العسقلاني، وذلك إنما يفعل عن توقيف، ومسافة الأربعة بُرُد تُقَدَّر حديثًا بحوالي (85) كيلو مترًا، فيجوز للمسافر هذه المسافة أن يقصر الصلاة، فيصلي الرباعية ركعتين، وتبدأ مسافة السفر الذي تقصر الصلاة بسببه من نهاية محل الإقامة: كَسُور المدينة، أو بوابة المدينة ومدخلها، وما يقاس عليه: كمحطة القطار، وموقف السيارات، والميناء الجوي، والميناء البحري، ونقطة الشرطة، أو عند ما يعرف الآن بالكارتة عند مدخل المدينة ومخرجها.. إلخ؛ قال الإمام النووي في "المجموع" (4/ 347، ط. دار الفكر): [لا يعد مسافرًا قبل مجاوزته، فإذا فارق السور ترخص بالقصر وغيره بمجرد مفارقته] اهـ. ويعنى بالسور: سور المدينة المحيط بها، والذي كان يعد نهاية محل الإقامة قديمًا.