في زمن العولمة الرقمية، أصبحت الحدود الثقافية أكثر هشاشة، وانفتحت الهويات المحلية على فضاءات شاسعة لا تعترف بالتقاليد أو الخصوصيات. فمن خلال شاشة صغيرة، يجد الإنسان نفسه محاطًا بتدفق هائل من الرموز، والقيم، والصور، والمفردات التي لا تنتمي بالضرورة إلى بيئته أو تاريخه. وفي خضم هذا الانكشاف الكوني المتسارع، يواجه الموروث الثقافي خطر التذويب، كما تواجه الهوية الثقافية معضلة التشظي بين أصالة الماضي وضغوط الحاضر.
لقد أدّت المنصات الرقمية الكبرى إلى إعادة تشكيل الذوق العام وأنماط التفكير، بطريقة تجعل من التراث المحلي مادة قابلة للتسويق أو التهجين، وأحيانًا للمحو التدريجي. فالكثير من عناصر الثقافة الشعبية والفنون التراثية تم اختزالها في مقاطع قصيرة، لا تحترم عمق السياقات ولا كثافة الرموز، بل تقدمها بوصفها مواد ترفيهية عابرة. يحدث ذلك في الوقت الذي تُهيمن فيه ثقافات مركزية – خصوصًا الأنغلوساكسونية – على المحتوى الرقمي، فارضة معاييرها الجمالية وقيمها الفردانية والنيوليبرالية بوصفها النموذج العالمي.
في هذا السياق، تبرز الهوية الثقافية كإشكال مفتوح، إذ لم تعد مجرد انتماء إلى وطن أو جماعة، بل أصبحت نتيجةً لاختيارات رقمية وتفاعلات افتراضية تتجاوز الجغرافيا والسياسة. ومن ثمّ، فإن السؤال لم يعد هل نحافظ على الهوية أم لا، بل كيف نصوغ هوية ديناميكية، قادرة على التفاعل دون الذوبان، وعلى التجدد دون الانفصال عن الذاكرة الجمعية. غير أن هذا التفاعل لا يخلو من مخاطر؛ فبين نزعة انغلاقية تتشبث بالماضي بوصفه ملاذًا، ونزعة استلابية تفرّط في كل شيء تحت شعار الحداثة، تضيع الهوية الحيّة التي تجمع بين الجذور والأفق.
إن حماية التراث الثقافي لا تعني تحويله إلى متحف صامت، بل تقتضي إعادة إنتاجه في صور معاصرة، تدمج بين الأصالة والابتكار. فكما نجحت شعوب كاليابان وكوريا في تحويل عناصر من تراثها إلى محتوى رقمي جذاب قادر على التصدير العالمي، يمكن للثقافات العربية أن تخوض تجربة مشابهة، شريطة أن يتم الاستثمار في البنية التحتية الثقافية الرقمية، وتشجيع الإبداع المحلي، وتمكين اللغة العربية من أداء دورها الكامل في المجال التكنولوجي. فليست القضية أن نُحافظ على التراث كأيقونة، بل أن نجعله مادةً حيّة للتعبير المعاصر.
إن السيادة الثقافية لم تعد تقتصر على مؤسسات النشر والتعليم، بل أصبحت مرتبطة بمدى قدرتنا على فرض حضور ثقافتنا في الفضاء الرقمي العالمي. وهذا يمر عبر دعم صنّاع المحتوى، ورقمنة الأرشيف الثقافي، وتطوير المنصات المحلية، وبناء شراكات بين المبدعين والتقنيين. كما يتطلب وعيًا جماعيًا بأهمية الحفاظ على اللغة بوصفها حاملة للهوية، لا مجرّد أداة تواصل، لأن من يخسر لغته يخسر أدوات تأويله للعالم.
في المقابل، ينبغي الانتباه إلى أن الانفتاح على الآخر لا يعني فقدان الذات. فالهويات الحية قادرة على التفاعل والتلاقح الثقافي دون أن تتنازل عن مرجعياتها. وليس من المفارقة أن أقوى الثقافات عالميًا هي تلك التي ظلت أمينة لذاكرتها، بينما أعادت تقديمها في صيغ حداثية مرنة. لذا، المطلوب هو تجاوز الثنائيات القاتلة بين "التراث والحداثة"، أو بين "الهوية والتعدد"، نحو نموذج ثقافي يزاوج بين الجذور والتنوع، بين الثبات والتأويل.
إن المعركة اليوم ليست فقط معركة أدوات أو منصات، بل معركة معنى. فالموروث الثقافي ليس مجرد ميراث الماضي، بل هو مشروع مستقبلي. ومن لا يملك القدرة على إعادة سرد قصته بلغة العصر، سيُروى له ما لا يُمثّله. وحين تُفرغ الثقافة من بعدها الروحي والإنساني، تصبح مجرد سلعة، وحين تُغلق على ذاتها، تتحول إلى طلل.
لهذا، فإن مهمة النخب والمثقفين وصناع القرار لم تعد تقتصر على التنظير، بل على العمل الحثيث لتفعيل الثقافة في الواقع الرقمي، بما يجعلها جزءًا من حياة الناس، لا عبئًا على ذاكرتهم. وحده التراث الذي يُجدد نفسه من الداخل، ويصغي لأسئلة الحاضر، هو القادر على العيش في زمن العولمة الرقمية، دون أن يفقد ذاته.