عاجل

بعد تولي الإدارة الأمريكية الجديدة.. فرنسا بين الأزمات الداخلية والدولية

الرئيس الفرنسي ماكرون
الرئيس الفرنسي ماكرون

تكاد تُجمِع التقارير الصحفية ودراسات مراكز الفكر الغربية على أن اللحظة الأوروبية الحالية هى لحظة فرنسا، لأن سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة تجاه أوروبا والغزو الروسي لأوكرانيا أكدت صدق تحليلات وتنبؤات الرئيس الراحل شارل ديغول التي أسست وأطَّرت الفكر الاستراتيجي والسياسة الخارجية الفرنسيين منذ بداية الستينيات، وهى تحليلات رأت بصفة عامة أن الولايات المتحدة ستتخلى إن آجلاً أم عاجلاً عن الدفاع عن القارة. فوفقاً لرؤيته، لا يعقل أن الولايات المتحدة تقوم بالمخاطرة ببقاء/فناء مدنها من أجل الدفاع عن مدن أوروبية، وأنه يتعين على فرنسا – وعلى كل دول القارة- الاستعداد للدفاع عن نفسها وانتهاج سياسات دفاع مستقلة (عن الولايات المتحدة) بقدر الإمكان. وبنى الرئيس ديغول قوة ردع نووية مستقلة تماماً عن الولايات المتحدة، ومنظومات مصانع حربية تتمتع بقدر كبير جداً من الاستقلالية.

ووفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية، شأنها شأن أغلب الدول الأوروبية، قلّصت فرنسا إنفاقها الدفاعي بعد انهيار المعسكر الشيوعي، ولكنها فضّلت عدم الاستغناء عن أى مكون من مكونات القوة. ولذلك، فإن جيشها بات جيش "عينات"، بمعنى أنه يمتلك كافة أنواع الأسلحة، ولكن بأعداد محدودة للغاية. وعرَّض تقلص مشتريات الجيش الفرنسي منظومة الصناعات الحربية الفرنسية لأزمة لا يمكن التعامل معها إلا بالتصدير الكثيف. ومن ناحية أخرى، تمت هيكلة الجيش لفترة طويلة وفقاً لمقتضيات مسرح عمليات محدد – أفريقي – وهو مسرح تتمتع فيه فرنسا بتفوق جوي كاسح، وهذا يطرح سؤال ملاءمة مهارات الجيش الفرنسي المشهود لها لحروب تقليدية مع عدوٍ قوي.

وانتبه الرئيس ايمانويل ماكرون للمشكلة ولتحديات "عودة الحرب التقليدية" منذ اليوم الأول في ولاياته الأولى ورفع من الإنفاق الدفاعي باستمرار، وطالب المؤسسة العسكرية بالاستعداد لمواجهة التحديات الأمنية الجديدة، وبذل جهوداً لإقناع الدول الأوروبية بالعمل على تحقيق الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي وإقامة "دفاع أوروبي مشترك".

وقبل ولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية، رفضت الدول الأوروبية هذا الخطاب، ورأت فيه استمراراً لسياسات فرنسا كحليف مناوئ للولايات المتحدة، وسعياً إلى زعامة القارة الأوروبية يسمح بتسويق السلاح، وفاقم من الشكوك في محددات السلوك الفرنسي عدم مراعاة باريس وقلة اهتمامها بهموم وخطاب دول أوروبا الشرقية وبالخطر الروسي. وفي تعبير آخر، رأت النخب الأوروبية في الخطاب الفرنسي سعياً إلى مضاعفة قوة فرنسا ودعماً لسياساتها دون أى اعتبار لاهتمامات الآخرين، ودون الدخول في تفصيلات كان السلوك الفرنسي حتى يونيو 2023 يدعم بل يؤكد صحة هذه الشكوك.

لا يمكن اختزال المشكلة طبعاً في "أنانية" أو "أحلام" فرنسية. إذ أن التحديات الدفاعية والأمنية والسياسية أمام فرنسا لا تنحصر في الجبهة الشرق أوروبية، فهناك تحديات الدفاع عن ممتلكاتها الكبيرة في المحيطين الهادي والهندي مما يقتضي بحرية قوية – فرنسا ثاني دولة في العالم من حيث اتساع "المناطق الاقتصادية الخالصة" في البحار- وهناك تحديات الدفاع عن مصالحها في أفريقيا والتعامل مع مشكلات وفرص وتهديدات آتية من الشرق الأوسط، من فصائل إرهابية وهجرة وتمدد تركي، وعلاقات معقدة إن لم تكن سيئة مع الجزائر، إلى جانب الملف النووي الإيراني، حيث أن كون فرنسا دولة نووية يمنح لها وضعاً تقل أهميته إن كثر عدد الدول المالكة للسلاح النووي.

ويبقى أن الثقافات الاستراتيجية الفرنسية والبريطانية مختلفة تماماً عن الثقافات الاستراتيجية لأغلب الدول الأوروبية وعلى رأسها ألمانيا، وأن قضايا التصنيع العسكري المشترك تواجه عقبات، أُلخِّصها هنا في جملتين: الريادة لمن؟، لصاحب الخبرة والمهارات أم لأكبر ممول، وتقسيم المهام بما يعني أن هناك دولاً – في مقدمتها فرنسا- قد تضطر إلى التخلي عن مصانع وإلى خسارة مهارات.

ويجب التشديد على كون الصراع العربي-الإسرائيلي مشكلة تتعلق بالأمن الداخلي في فرنسا، لكثافة التواجد المسلم واليهودي فيها، وتأثير هذا الصراع على العلاقة بين أبناء الديانتين واضح. والمشكلة طبعاً هى كيفية التوفيق بين اعتبارات تأييد الحق الفلسطيني دون المساس بأمن إسرائيل، واعتبارات الحفاظ على النسيج الوطني الفرنسي والتصدي للاعتداءات المتزايدة على المواطنين الفرنسيين اليهود. نكتفي هنا بالقول بأن سياسات إسرائيل الحالية دفعت فرنسا في الأشهر الماضية إلى انحياز واضح للفلسطينيين، حيث قال الرئيس الفرنسي في حديث تلفزيوني يوم 13 مايو 2025 إن هذه السياسات "عار" – ولكنه تفادى الرد على سؤال اعتبارها "جريمة إبادة أم لا"، إذ قال أن هذا السؤال متروك للمؤرخين.

وهناك اعتبار آخر يعطي للقضايا العربية صوتاً مسموعاً في فرنسا، وهو اعتماد المصانع الحربية الفرنسية على الأسواق العربية. وفي المقابل، هناك استياء شعبي واسع من التمدد الإخواني والسلفي في أوساط المسلمين الفرنسيين، وغضب مكتوم أحياناً وصريح أحياناً أخرى تجاه الجزائر، إلى جانب الجدل اللانهائي حول البقاء على الصيغة العلمانية كما هى أم وجوب تطويرها، وهو جدل تسود فيه العصبية والتراشق الحاد، شأنه شأن النقاش حول الإسلاموفوبيا ومعاداة السامية. وأخيراً وليس آخراً، هناك الخوف من تزايد عدد اليهود الذين يهاجرون من فرنسا إلى إسرائيل أو الولايات المتحدة، وهو تزايد ينسب بحق أو بدون حق إلى انتعاش المعاداة للسامية انتعاشاً مقلقاً للغاية.

الوضع في ظل الإدارة الأمريكية الجديدة

لكن السلوك والخطاب الأمريكيين الجديدين دفعا الدول الأوروبية – وفي مقدمتها أكثرها تمسكاً بتواجد أمريكي قوي في القارة وتحديداً ألمانيا وبولندا- إلى "هرولة لا تخفي الشكوك" نحو فرنسا صاحبة رادع نووي مستقل تماماً عن الولايات المتحدة (على عكس الردع البريطاني)، وإلى مزيد من الاستماع للمقولات الفرنسية. إذ تطالب عدة دول أوروبية، على رأسها ألمانيا، فرنسا والمملكة المتحدة بتوفير حماية نووية لها، ووقعت فرنسا وبولندا يوم 9 مايو الجاري معاهدة توثق التعاون العسكري وبها نصوص عن "ضمانات أمنية متبادلة" تفتح الباب – وفقاً لرئيس الوزراء البولندي دونالد توسك – أمام حماية المظلة النووية الفرنسية لبولندا.

وتولت فرنسا بالاشتراك مع المملكة المتحدة الريادة في المشاورات حول فكرة إرسال قوات تطمين أوروبية إلى أوكرانيا وطبيعة مهامها في حال التوصل إلى وقف إطلاق النار، وهى فكرة تتحفظ عليها بعض الدول الأوروبية – منها بولندا وإيطاليا- وترفضها روسيا تماماً. وجدير بالذكر أن الرئيس ماكرون طرح - في بدايات 2024- فكرة إرسال قوات فرنسية إلى أوكرانيا، وهى فكرة أثارت جدلاً واسعاً في فرنسا وفي أوروبا حول قبولها أو رفضها وحول مهام مثل هذه القوات. وبصفة عامة، أدت مواقف الرئيس الفرنسي منذ نهاية مايو 2023 إلى تحسين مذهل لصورة فرنسا في أوروبا الشرقية.

ولكن هذا لا يعني زوال شكوك الدول الأوروبية في صحة "الخيار الفرنسي"، بل هى متوجسة منه، ولكنها تشعر أنها لا تملك خيارات في ظل السياسات الأمريكية الحالية، وتميل أغلبها إلى متابعة التحليلات الفرنسية، وفي الوقت نفسه إلى الشك في النوايا الفرنسية وفي قدرة باريس على التعامل مع التهديدات والتحديات الجديدة رغم دقة تشخيصها.

إذ أن حديث ديغول عن "عدم مخاطرة الولايات المتحدة ببقاء مدنها" من أجل إنقاذ دول أوروبية ينطبق أيضاً على فرنسا، فهل ستخاطر باريس بسلامتها من أجل ريغا أو فيلنيوس أو تالين أو وارسو؟. ويُقوِّي هذا الشك غموض اللغة النووية الفرنسية، المُشدِّدَة على أن النووي يدافع عن المصالح الحيوية لفرنسا، وأن هذه المصالح لا تتوقف عند حدود فرنسا، وأن تحديدها وتقدير جسامة التهديدات لها متروكان للرئيس الفرنسي.

على عكس فرنسا، يرى أغلب الأوروبيين أن هذا الغموض لا يُعقِّد حسابات العدو بل يدفعه إلى اختبار حدود وصلابة الضمانة. وفي الوقت نفسه، يتفهم الأوروبيون أن قيام فرنسا بتحديد أوضح للعقيدة النووية قد يكون له تبعات سلبية على الرأى العام الفرنسي ويؤدي إلى انتخاب رئيس مهادن لروسيا أو رافض للالتزامات الأوروبية.

وهذا يدفع إلى الحديث عن سبب آخر للهواجس الأوروبية، ففي فرنسا للرئيس اليد العليا – شبه مطلقة- في السياسة الخارجية، ولا يمكن استبعاد وصول رئيس كاره لمشروع الوحدة الأوروبية إلى سدة الحكم سنة 2027، ولكل حزب من الأحزاب المتطرفة مرشح معروف للرئاسة، ولا أحد يعلم من سيكون مرشح اليمين الجمهوري و/أو الوسط و/أو الاشتراكيين.

إلى جانب ذلك، هناك مشكلة جسيمة أخرى، وهي الوضع المالي الحرج لفرنسا، العاجزة تماماً عن ترشيد إنفاقها وعن تمرير إصلاحات ضرورية لتحسين أدائها الاقتصادي والمالي، نظراً لحدة الاستقطاب الداخلي، ولخشية كل الفاعلين من تأثير سلبي للإصلاح على فرصهم الانتخابية. ويعني هذا أن هناك تساؤلات مشروعة حول قدرات فرنسا على ترجمة أقوالها إلى أفعال، وعلى تمويل برامجها الدفاعية، وهناك مخاوف من استخدام فرنسا لملفات الدفاع لفرض سياسات تحقق مصالحها الضيقة، ولممارسة أنواع من الابتزاز، وعزز هذه المخاوف إلحاح فرنسا على إعطاء أوروبا أولوية للسلاح المنتج في دول الاتحاد، على حساب المملكة المتحدة، ما لم تتوصل باريس ولندن إلى اتفاق حول صيد الأسماك. أي أن فرنسا أعطت الأولوية لمصالح فئة صغيرة من مواطنيها على حساب الصالح الأوروبي العام. وأشرنا أعلاه إلى صعوبات التصنيع العسكري المشترك، حيث تتهم عدة دول فرنسا بالتعنت في هذا المضمار.

ختاماً، يمكن القول إن أغلب الملفات الأوروبية – اقتصادية كانت أم متعلقة بالسياسات الخارجية والدفاعية- تأثرت سلباً بسوء العلاقات بين المستشار الألماني المنتهية ولايته أولاف شولتز والرئيس ماكرون، وأن هناك فرصاً لانطلاقة جديدة مع وصول مستشار آخر إلى سدة الحكم ومع وضوح توجهات الرئيس الأمريكي. وفي الوقت نفسه، قد يؤدي إقدام ألمانيا على إصلاح اقتصادها وزيادة إنفاقها الدفاعي إلى مزيد من اختلال الموازين لصالح برلين، لن يكفي امتلاك فرنسا للسلاح النووي لتعويضه أو الحد منه. لكن لا يعني هذا أن لا أوراق لفرنسا، فوضعها في ملف الطاقة أفضل من الوضع الألماني لاحتفاظها بالطاقة النووية السلمية. 

ولفرنسا، كما هو معروف، مواقف إيجابية من الحق الفلسطيني، وما زالت تنادي بحل الدولتين وبوقف القتال، وتنخرط في تنظيم المساعدات الإنسانية، وبدا واضحاً أن زيارة الرئيس ماكرون للعريش وما شاهده هناك من آلام فلسطينية ومن استحالة دخول المساعدات إلى غزة بسبب التعنت الإسرائيلي أثر فيه تأثيراً كبيراً. إذ قال أن "ما شاهده على الحدود المصرية من أسوأ ما شاهده في حياته". ولكن قدرته على التأثير محدودة بحكم تدهور علاقاته مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وبحكم تداعيات الأحداث. في هذا الصدد، يجب عدم نسيان أن هجوم 7 أكتوبر 2023 كان أكبر هجوم على مواطنين فرنسيين منذ سنة 2016، وقد أشار الرئيس الفرنسي إلى ذلك يوم 13 مايو الجاري. وتحاول فرنسا أيضاً حماية الغزاويين الحاملين للجنسية الفرنسية وإقناع الرئيس ترامب بالعمل على ضرورة وقف القتال. وقال ماكرون يوم 13مايو الحالي أن سؤال مراجعة اتفاقيات التعاون الأوروبي مع إسرائيل بات مطروحاً في كل العواصم الأوروبية، وهو ما سيتوقف على الموقف الألماني، وكيفية موازنته بين ركنين أساسيين لسياسة ألمانيا: الالتزامات التاريخية تجاه إسرائيل والالتزامات التاريخية تجاه تقديس حقوق الإنسان.

تم نسخ الرابط