الأهداف والدلالات .. زيارة أحمد الشرع إلى فرنسا ومفاوضات مع إسرائيل

قام الرئيس السورى أحمد الشرع، فى 7 مايو 2025، بزيارة رسمية لفرنسا، وهى الزيارة الرسمية الأولى له لدولة أوروبية منذ توليه سلطة إدارة عملية الانتقال السياسى فى سوريا. الزيارة أثارت الكثير من الجدل باعتبار أن الرئيس السورى الانتقالى أحمد الشرع لا يزال مصنفاً على لوائح الإرهاب ومدرج بالتالى على قوائم العقوبات المرتبطة بها من ناحية، فضلاً عن العقوبات المفروضة من قبل الأمم المتحدة على سوريا إبان فترة حكم نظام بشار الأسد من ناحية ثانية.
لكن المفوضية الأوروبية للشئون الخارجية أتاحت للشرع فرصة دخول إحدى دول الاتحاد تحت بند الاستثناءات فى حالة توجيه إحدى الدول الأعضاء دعوة رسمية له لزيارتها. وجدير بالذكر أن الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون سبق وأن دعا الشرع – فى فبراير 2025 - لزيارة باريس، إلا أنه أوقفها آنذاك على شرط تشكيل حكومة وطنية.
ووفقًا لدراسة أعدها مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية والسياسية، فقد اعتبرت باريس أن زيارة الشرع لفرنسا لا تعنى بأى حال من الأحوال الانفتاح "غير المنضبط" على الإدارة الانتقالية الجديدة، لكنها فى الوقت نفسه أعلنت أنها خطوة إيجابية فى مسار طويل لتطوير العلاقات الفرنسية السورية مستقبلاً، تقوم على دور فرنسى أكثر إيجابية فى التعاطى مع مساعى المرحلة الانتقالية فى سوريا الجديدة لبناء نظام أكثر أمناً واستقراراً وأكثر قدرة على حماية حقوق الأقليات، ومكافحة الإرهاب، وإعادة الإعمار، ونسج علاقات جديدة مع لبنان بعد تراجع نفوذ إيران فى كلتا الساحتين السورية واللبنانية.
فى المقابل، فإن حلحلة الموقف الأوروبى، بهدف الإسراع باتخاذ خطوات أكثر إيجابية تجاه الرفع الكامل للعقوبات الاقتصادية على سوريا، كانت هى الهدف الرئيسى من زيارة الشرع لباريس؛ وهى زيارة جاءت بعد عدة خطوات إيجابية خطتها فرنسا تجاه السلطة الانتقالية فى دمشق خلال الشهور الماضية
بالإضافة إلى ذلك، فقد ازدادت حالة الجدل بشأن تلك الزيارة فى ضوء التصريحات التى أطلقها الشرع خلالها، وهى التصريحات التى كشف فيها عن مفاوضات غير مباشرة أجرتها سوريا مع إسرائيل عبر وسطاء، منذ أبريل 2025، بشأن العدوان على الجنوب السورى والبحث عن مخرج لتهدئة الأوضاع فيه، وهو ما أكسب الزيارة أهمية خاصة فى ظل ما تعكسه هذه التصريحات من دلالات.
دلالات وأهداف
تبدى الدول الأوروبية دعماً ملحوظاً للإدارة الانتقالية فى سوريا انعكس فى الرفع الجزئى لبعض العقوبات الاقتصادية التى كانت مفروضة على النظام السابق، لكن فرنسا على وجه الخصوص كانت قد تبنت نهجاً أكثر اقتراباً من التحولات الجديدة فى سوريا، بدأته بتعيين قائم بالأعمال لدى دمشق، كخطوة أولى فى مسار إعادة فتح سفارتها هناك بصورة كاملة، وهو النهج الذى يمكن تفسيره بطبيعة العلاقات الفرنسية القوية مع كل من سوريا ولبنان على مدار عقود من الزمن، فضلاً عن رصيد سياسى راكمته باريس – تاريخياً – فى التعامل مع الدولتين بصفة خاصة، ومنطقة الشرق الأوسط بصفة عامة.
هذه المعطيات تعكس دلالات وأهداف الطرفين السورى والفرنسى من الزيارة التى قام بها الشرع لباريس، والتى يمكن الإشارة إليها فى النقاط التالية:
1- بالنسبة لفرنسا: تحاول باريس ممارسة دور دبلوماسى نشط فى دعم الحكومة السورية خلال مرحلة الانتقال السياسى بكافة مراحلها، لاسيما وأن باريس لعبت دوراً سابقاً فى دعم قوى المعارضة السورية سياسياً فى مواجهة نظام بشار الأسد من ناحية، فضلاً عن كونها من أوائل الدول الأوروبية التى رحبت بإسقاط هذا النظام من ناحية ثانية، هذا بخلاف مساعيها بشأن نسج علاقات مع بعض قوى المجتمع المدنى فى سوريا من ناحية ثالثة، يضاف إلى ذلك علاقتها الجيدة بالقوى السياسية الكردية وقوات سوريا الديمقراطية "قسد".
هذا الدور الدبلوماسى الذى تأمل باريس القيام به فى سوريا الجديدة قد يمكنها من طرح نفسها كقوة دولية جديدة على معادلة الملف السورى التى كانت "مغلقة" على أطراف بعينها هى الولايات المتحدة وروسيا وتركيا وإيران. وهذا يعنى أن فرنسا تحاول الاستفادة من خروج فعلى لبعض تلك القوى من معادلة الملف السورى وهى تحديداً إيران، والاستفادة كذلك من الخروج النسبى من قبل روسيا، واحتمالية خروج مشابه من قبل الولايات المتحدة التى لايزال موقفها بشأن سحب قواتها من شمال شرق سوريا متأرجحاً بين البقاء المحدود وبين الانسحاب الكامل.
أما بالنسبة للنفوذ التركى فى سوريا، فترى فرنسا أن دوراً لها فى سوريا الجديدة من شأنه عدم ترك الملف السورى فى يد تركيا بمفردها باعتبارها صاحبة الحضور الرئيسى حالياً على المشهد السياسى السورى. وهذا فى مجمله يعكس رغبة باريس فى إعادة تشكيل النفوذ الفرنسى فى منطقة المشرق العربى مجدداً عبر البوابة السورية.
فضلاً عن ذلك، فإن لدى باريس رغبة فى دعم استقرار لبنان عبر تأييد التغيرات الحادثة فى الساحة السياسية بعد تراجع النفوذ الإيرانى فى الداخل اللبنانى، بانكفاء الحليف المحلى - حزب الله اللبناني - على نفسه فى أعقاب اتفاق وقف اطلاق النار بينه وبين دولة الاحتلال الإسرائيلى فى نوفمبر 2024. وهذه الرغبة الفرنسية لا تكتمل إلا بقيام دمشق بمسئوليتها فى الحفاظ على أمن منطقة الحدود مع لبنان ومنع حزب الله من إعادة ترتيب أوراقه فيها عسكرياً، فضلاً عن دعم باريس لعملية تتضمن ترسيم الحدود السورية اللبنانية مستقبلاً، ومن ثم كان لبنان حاضراً بقوة على ملفات زيارة الشرع لباريس.
2- بالنسبة لسوريا: يعكس توقيت الزيارة بعد أحداث العنف الطائفى فى السويداء وجنوب دمشق ومن قبلها التعامل العنيف من قبل قوات الأمن الجديدة مع العلويين فيما عرف بأحداث الساحل، محاولة الرئيس السورى الانتقالى أحمد الشرع تقديم نفسه لدول الاتحاد الأوروبى من بوابة فرنسا بالتأكيد على حاجته الضرورية لتدفق المساعدات والتى من شأنها دعم قدرة حكومته على فرض الأمن والاستقرار وتقويض العنف والتوتر الطائفى. وهى محاولة للتأثير على الدول الأوروبية بما قد يفتح الباب لدراسة جادة لخيار رفع العقوبات بصورة كاملة، أو على أقل تقدير منع تجديدها فى ميعادها الدورى المقرر له يونيو المقبل.
كما تسعى دمشق إلى الدفع نحو ممارسة أوروبا ضغوطاً سياسية على الولايات المتحدة بشأن رفع العقوبات، لاسيما العقوبات المتعلقة بمجالات الطاقة والاستثمار والبنية التحتية، وهو ما قد يتيح للدولة السورية تهيئة الأجواء والبيئة الآمنة اجتماعياً واقتصادياً لعودة اللاجئين السوريين. ويستهدف الشرع من تلك الخطوة أيضاً العبور إلى كافة دول المجتمع الدولى، لاسيما تلك التى تشكل قوى دولية وإقليمية مؤثرة فى تفاعلات السياسية الدولية.
بالتوازي مع ذلك، تهدف الزيارة إلى توجيه رسالة للمجتمع الأوروبى بأن الحكومة السورية الجديدة بصدد المضى قدماً فى معالجة تحديات المرحلة الانتقالية، وأنها تسعى إلى تطبيق مسار للعدالة الانتقالية، ولعل رمزية لقاء الشرع بفريد الذهان، الضابط السورى إبان حكم بشار الأسد قبل الانشقاق عنه والمعروف إعلامياً بـ"قيصر"، قد عكس هذا الأمر.
فى المقابل، أكدت باريس ضرورة أن تشمل العدالة الانتقالية محاسبة المتورطين فى العنف الطائفى الذى شهدته سوريا خلال الشهور الثلاثة الماضية؛ سواء تجاه العلويين فى مناطق الساحل السورى، أو تجاه الدروز فى السويداء وجنوب دمشق.
مفاوضات مع إسرائيل
اللافت فى زيارة الرئيس السورى الانتقالى أحمد الشرع لفرنسا بخلاف الدلالات، التى سبقت الإشارة إليها، هو التصريح المهم الذى أقر فيه الشرع بأن حكومته تخوض مباحثات "غير مباشرة" مع الجانب الإسرائيلى بخصوص تهدئة الأوضاع فى الجنوب السورى، بما قد ينهى حالة التصعيد الإسرائيلى المتزايدة داخل الأراضى السورية، والتى لم تعد تقف عند حد السيطرة على الجنوب، وإنما اتسعت لتهدد محيط مقر رئاسة الشرع نفسه.
أهمية التصريح تكمن فى اختيار الشرع الإعلان عنه خلال زيارته الخارجية لإحدى الدول الأوروبية، وهو ما يعكس احتمالاً بأن الشرع يستهدف مخاطبة الولايات المتحدة عبر البوابة الأوروبية لحملها على ضبط تفاعلات الحكومة الإسرائيلية تجاه سوريا من ناحية، أو أن يدفع الاتحاد الأوروبى نفسه إلى تبنى موقف دبلوماسى "ضاغط" تجاه تل أبيب يدفعها إلى وقف اعتداءاتها المتكررة على سوريا من ناحية ثانية.
كما كشف الشرع عن مسار هذه المفاوضات بأنه بدء منذ شهر أبريل الفائت وعبر وسطاء، لم يسمهم، وأن هذه المفاوضات تتعلق بعدة نقاط أمنية واستخباراتية وسبل بناء الثقة بين الجانبين السورى والإسرائيلى، وهو ما يمكن ترجمته فى رغبة الشرع في استقطاب دعم دولى تجاه الموقف من العدوان الإسرائيلى على الجنوب، عبر الحصول على ثقة الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة فى هذا الشأن، خاصة وأن الأخيرة طالبت الحكومة الانتقالية فى دمشق بعدة مطالب كخطوة لبناء الثقة معها، وأوقفتها على عدة شروط من بينها ضمان أن لا تهدد سوريا جوارها الإقليمى، وهو ما يتسق مع مسار الشرع فى التعامل مع إسرائيل منذ اليوم الأول لتوليه إدارة الدولة السورية خلال الشهور الثلاثة الأولى بعد سقوط نظام الأسد، حينما أعلن عن النأى بسوريا خلال المرحلة القادمة عن أى صراعات خارجية.
مما سبق يمكن القول إن فرنسا بدعوتها للرئيس السورى الانتقالى أحمد الشرع لزيارتها رسمياً من ناحية، وأن قبول الشرع لهذه الزيارة فى توقيت لافت بعد أحداث متواترة من العنف الطائفى من ناحية ثانية، فضلاً عن تصاعد الاعتداءات المتكررة من قبل دولة الاحتلال الإسرائيلى على الجنوب السورى من ناحية ثالثة، يعكس أهدافاً محددة لكل من الرئيس الفرنسى ونظيره السورى؛ حيث يسعى ماكرون إلى إعادة تأهيل السياسة الخارجية الفرنسية تجاه المشرق العربى عبر البوابة السورية كما هو الحال بالنسبة للبنان، وبما يعيد النفوذ الفرنسى مجدداً إلى المنطقة. بينما يسعى الشرع إلى مخاطبة الاتحاد الأوروبى بهدف دفع دوله إلى دراسة خيارات الرفع الشامل للعقوبات المفروضة على دولته، بما يحقق قدراً من الاستقرار السياسى والأمنى والاقتصادى للدولة السورية، وبما يضمن مواجهة تحديات المرحلة الانتقالية ويدعم مساراً جاداً لتحقيق الانتقال السياسى.