ما علاقة البكتيريا الفموية بالصداع المزمن وآلام الجسم .. دراسة تكشف

اعتاد الكثيرون النظر إلى نظافة الفم والأسنان على أنها وسيلة لتحسين المظهر العام والحفاظ على ابتسامة بيضاء ومشرقة، دون إدراك أن ما يدور داخل الفم قد تكون له تداعيات صحية أعمق بكثير مما يبدو على السطح. فقد كشفت دراسة علمية حديثة أجريت في جامعة سيدني الأسترالية أن إهمال صحة الفم لا يؤثر فقط على الأسنان أو اللثة، بل قد يكون مسؤولاً عن نوبات متكررة من الصداع النصفي، إضافة إلى آلام عضلية وجسمانية مزمنة، خاصة لدى النساء المصابات بمتلازمة الألم العضلي الليفي.
دراسة أسترالية تربط صحة الفم بمتلازمة الألم العضلي الليفي
نشرت هذه الدراسة الرائدة في مجلة Frontiers in Pain Research، وهدفت إلى فهم العلاقة بين البكتيريا الفموية والأعراض المزمنة المنتشرة في الجسم. وشارك في الدراسة 186 امرأة، كانت نسبة 67% منهن يعانين من متلازمة الألم العضلي الليفي، وهي حالة مرضية معقدة يتسم بها الجسم بفرط الحساسية تجاه الألم، وترافقها أعراض مثل اضطرابات النوم، والتعب المزمن، وضعف التركيز.
وخلال مراحل البحث، أجرى العلماء تحليلات دقيقة للبكتيريا الموجودة في أفواه المشاركات، وقاموا بمقارنتها بدرجة انتشار الأعراض الجسدية والعصبية. وكانت النتائج مثيرة للاهتمام، إذ تبين أن النساء اللواتي يعانين من تدهور في صحة الفم والأسنان، كنّ أكثر عرضة بنسبة تصل إلى 60% للإصابة بآلام مزمنة في أنحاء متعددة من الجسم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل اتضح أن واحدة من كل امرأتين تعاني من الصداع النصفي المزمن، يكون لديها علامات واضحة على التهابات فموية مزمنة أو تراكم بكتيري غير طبيعي.
أربعة أنواع من البكتيريا الفموية
من أهم ما توصل إليه الباحثون في الدراسة هو رصد أربعة أنواع محددة من البكتيريا الفموية، التي يبدو أن لها دوراً مباشراً في تحفيز الجهاز العصبي المركزي، وإحداث حالة من التهيّج المزمن تؤدي إلى تفاقم الأوجاع المنتشرة في الجسم. وهذه البكتيريا، التي تتكاثر نتيجة إهمال تنظيف الأسنان واللثة، قد تكون السبب الخفي وراء كثير من الأعراض التي يعاني منها المرضى دون أن يدركوا أصل المشكلة.
وقد أكد البروفيسور "طوني دافي"، رئيس فريق البحث، أن هذا الاكتشاف يمثل اختراقاً علمياً في فهم آليات الألم المزمن، خاصة لدى النساء اللواتي غالباً ما يُساء فهم حالتهن الصحية، أو يتم تشخيصهن بشكل خاطئ نتيجة غموض الأعراض وتنوعها.
وأضاف دافي في تصريحاته لموقع "هيلث داي" أن العلاقة بين صحة الفم والجهاز العصبي تستحق اهتماماً أكبر من المجتمع الطبي، لا سيما أن تقنيات الوقاية والعلاج متوفرة وسهلة التطبيق، إلا أنها لا تلقى الاهتمام الكافي من المرضى.
العناية بصحة الفم قد تكون مفتاحاً لتقليل الألم
ما يجعل هذه الدراسة جديرة بالاهتمام أن نتائجها لا تقدم فقط نظرة جديدة لصحة الفم، بل تدعو إلى إعادة تقييم الطريقة التي نتعامل بها مع آلام الجسم المزمنة. فبدلاً من الاعتماد فقط على المسكنات أو العلاجات التقليدية، ربما يكون تنظيف الأسنان بشكل منتظم، واستخدام الغسول الفموي، والخيط الطبي، وزيارة الطبيب بشكل دوري، من أبرز الأدوات الوقائية التي قد تحمي الجسم من نوبات الألم الطويلة والمربكة.
ويشير الباحثون إلى أن أهمية هذه النتائج لا تقتصر على المصابين بالألم العضلي الليفي، بل تمتد إلى فئات أخرى تعاني من أعراض مشابهة دون وجود أسباب عضوية واضحة. فالمعادلة الجديدة التي تطرحها الدراسة هي: كلما كانت بيئة الفم نظيفة ومتوازنة، كلما قل احتمال تعرّض الجسم لنوبات الألم والتوتر العصبي المزمن.
ما الذي يجب أن نفعله الآن؟
بناءً على هذه النتائج، يمكن القول إن العناية اليومية بالفم يجب أن تصبح أولوية صحية لا تقل أهمية عن العناية بالقلب أو الجهاز العصبي. ومن النصائح الأساسية التي يقدمها الخبراء:
- تنظيف الأسنان مرتين يومياً باستخدام معجون غني بالفلورايد.
- استخدام خيط الأسنان لإزالة بقايا الطعام والبكتيريا من بين الأسنان.
- تجنّب الإفراط في تناول السكريات التي تُعزز نمو البكتيريا الضارة.
- زيارة طبيب الأسنان مرتين في السنة للكشف المبكر عن أي مشكلات فموية.
- الاهتمام بنظافة اللسان، حيث تُعد من المناطق التي تتراكم فيها البكتيريا بكثرة.
صحة الفم هي بوابة لصحة الجسم والعقل
ما تكشفه هذه الدراسة الأسترالية يتجاوز حدود الطب التقليدي الذي طالما حصر مشكلات الفم في إطار الأسنان فقط، ليفتح آفاقاً جديدة لفهم الترابط العميق بين صحة الفم والجهاز العصبي وأعراض الألم المزمن. وربما نحتاج اليوم إلى إعادة النظر في مفهوم "الوقاية" من الأمراض، لنُدرج نظافة الفم ضمن أدواتنا الأساسية لتحسين جودة الحياة، والوقاية من أمراض لا تزال غامضة وشديدة التأثير مثل الصداع النصفي وآلام العضلات المنتشرة.
فالابتسامة الصحية ليست مجرد مظهر خارجي، بل قد تكون مفتاحاً لصحة أعمق، وعافية ممتدة من الرأس حتى القدمين.