عاجل

استطلاع حديث : لا نعترف عادة بأمراضنا و لحاجتنا لطبيب نفسي

الدعم النفسي
الدعم النفسي

في زمن تتسارع فيه وتيرة الحياة وتتضاعف فيه الضغوط النفسية والاجتماعية، أصبح الحديث عن  الصحة النفسية أكثر حضورًا في الأوساط الإعلامية والمجتمعية. ومع ذلك، لا تزال هناك فجوة مقلقة بين إدراك أهمية الدعم النفسي وبين الاستعداد الفعلي لطلبه، خاصة حين يتعلق الأمر بأنفسنا.
وقد كشفت دراسة استقصائية حديثة أجرتها منصة AsiaOne وشملت أكثر من 1,000 مشارك من البالغين، عن مفارقة نفسية واجتماعية عميقة تعكس التباين بين تعامل الأفراد مع احتياجاتهم النفسية مقارنة بكيفية تعاملهم مع احتياجات من حولهم.

نحن نرأف بالآخرين..ونتجاهل أنفسنا


بحسب نتائج الاستطلاع، قال 60٪ من المشاركين إنهم سيوصون أحد أفراد أسرتهم أو أصدقائهم بطلب المساعدة النفسية إذا لاحظوا عليه ميولًا انتحارية، وهو ما يعكس قدرًا من الوعي والتعاطف مع الآخرين. لكن المثير للقلق أن فقط 42٪ منهم أشاروا إلى أنهم سيتخذون الخطوة ذاتها إذا كانوا هم من يعانون تلك الميول!

أما في حالات إيذاء النفس، فقد أبدى 55٪ استعدادهم لتقديم النصيحة للغير بطلب الدعم النفسي، مقابل 35٪ فقط قالوا إنهم سيفعلون ذلك لأنفسهم. وعند الحديث عن مشكلات الإدمان، انخفضت النسبة بشكل أكبر؛ حيث يشجع 35٪ غيرهم على اللجوء للمساعدة، لكن فقط 18٪ يعترفون بحاجتهم الشخصية إلى ذلك.

لماذا هذا التناقض؟

هذا التباين الكبير بين ما نوصي به للآخرين وما نمارسه لأنفسنا يثير العديد من الأسئلة حول الطريقة التي ننظر بها إلى الصحة النفسية، ومقدار الوصمة والخوف الاجتماعي المرتبط بها.
ترى الدكتورة جاكلين لي تيلي، أستاذة مساعدة في المعهد الوطني للتربية، أن هذه الظاهرة ترتبط بعدة عوامل نفسية واجتماعية، أهمها أن الناس يعتبرون الاهتمام بالصحة النفسية "استثمارًا جديرًا بالاهتمام" عندما يكون موجّهًا نحو الآخرين، بينما يصعب عليهم رؤية نفس الأهمية حين يتعلق الأمر بأنفسهم.

وترجح أن السبب الرئيس هو استمرار النظرة المجتمعية التي ترى في طلب المساعدة النفسية نوعًا من الضعف أو فقدان السيطرة. تقول جاكلين: "إذا اعتقد الشخص أن مشكلاته النفسية ستؤثر سلبًا على صورته المهنية أو مكانته الاجتماعية، فقد يختار الصمت على أن يوصم بالهشاشة."

الوصمة الاجتماعية… حائط الخوف الصامت

ترتبط مسألة الصحة النفسية في أذهان كثيرين بأفكار مغلوطة، أبرزها أن طلب المساعدة يُعد إشارة على الانكسار أو العجز. وهذا ما تشرحه المعالجة النفسية ميليسا يونغ، حيث تشير إلى أن كثيرين من أصحاب الشخصيات الكمالية - أولئك الذين يضعون لأنفسهم معايير عالية ويتوقعون دائمًا الأداء الأمثل - يجدون صعوبة بالغة في الاعتراف بمرورهم بأزمة نفسية، لأن ذلك يتعارض مع الصورة المثالية التي يحاولون الحفاظ عليها أمام الآخرين... بل وأمام أنفسهم أيضًا.

تقول ميليسا: "طلب المساعدة ليس علامة ضعف، بل هو شجاعة عاطفية نادرة. لكنه في مجتمعات لا تمنح المساحة الآمنة للاعتراف بالمشاعر، يبدو وكأنه خطر على السمعة أو دلالة على الفشل."

وتؤكد أن مواجهة الذات تتطلب قدرًا من الوعي والجرأة، مشيرة إلى أن الكثيرين يفضلون الهروب من الألم النفسي عبر التجاهل أو الإنكار، خوفًا من كشف جراح داخلية قد لا يعرفون كيف يتعاملون معها.

كيف يمكننا كسر هذه الحلقة؟

التغلب على هذا التردد يبدأ من إعادة تعريف علاقتنا بالصحة النفسية، وتغيير المفهوم السائد عن "طلب الدعم" ليصبح مرادفًا لـ"العناية الذاتية".
تنصح ميليسا يونغ بتبني ما تسميه "التحقق الذاتي"، أي تخصيص لحظات منتظمة نمارس فيها الصدق مع أنفسنا من خلال التأمل، أو كتابة المشاعر، أو حتى الحديث مع شخص موثوق.

وتدعو جاكلين إلى تغيير الخطاب المجتمعي حول الصحة النفسية، بحيث لا يُنظر إلى الدعم النفسي كخيار "لمن فشلوا في التحمل"، بل كوسيلة استباقية للحفاظ على الاتزان النفسي، تمامًا كما نلجأ للطبيب عند الشعور بأعراض جسدية.

الدعم متاح… لكن من يجرؤ على طلبه؟

رغم المخاوف، هناك اليوم العديد من الخدمات المجانية أو منخفضة التكلفة التي تتيح للأفراد الحصول على دعم نفسي محترف وسري.
منها على سبيل المثال: منصة webCHAT التابعة لمؤسسة الصحة النفسية، والتي تتيح للمستخدمين التواصل مع مختصين دون الحاجة لكشف هويتهم. كما توفر منظمات غير ربحية مثل Limitless خدمات استشارية عبر تطبيق "واتساب"، ما يسهل الوصول إلى المساعدة دون تعقيدات إدارية أو مالية.

 هل نحب أنفسنا كما نحب الآخرين؟

إن النتائج التي كشفتها الدراسة ليست مجرد أرقام، بل مرآة لواقع اجتماعي وثقافي يعاني من خلل في فهم الذات والتعامل مع الألم النفسي.
في الوقت الذي نتعاطف فيه مع أحبابنا وندعوهم للاعتناء بأنفسهم، ننسى – أو نتناسى – أننا أيضًا بشر، نحتاج إلى الدعم، والرعاية، والحنان… من أنفسنا أولًا.

ربما آن الأوان لطرح سؤال بسيط لكنه جوهري: "إذا كنت سأقول لصديقي الذي يعاني: اطلب المساعدة، فمتى سأقول ذلك لنفسي؟"

تم نسخ الرابط