عاجل

سُبيعة بنت الحارث.. الصحابية التي غيّرت فقه العدّة وأثبتت مكانة المرأة

الصحابية سبيعة بنت
الصحابية سبيعة بنت الحارث

ليست كل الشخصيات التاريخية تترك أثرًا يتجاوز عصرها، لكن بعض الأسماء تتجاوز الزمان لتصبح مفاتيح فقهية ونماذج إيمانية يُحتذى بها، ومن بين تلك الأسماء تتلألأ شخصية سُبيعة بنت الحارث الأسلمية، إحدى الصحابيات الجليلات التي ارتبط اسمها بإحدى المحطات الفقهية المهمة في حياة المرأة المسلمة، إذ نزل بشأنها حكمٌ شرعي غيّر نظرة المسلمين لمسألة عدّة المرأة المتوفى عنها زوجها.

من هي سُبيعة بنت الحارث؟

سُبيعة بنت الحارث كانت من أوائل من أسلم من النساء، تنتمي إلى بني أسلم، وشاركت مجتمع المدينة في التحولات العميقة التي جاءت بها الدعوة الإسلامية. تميزت بالفطنة والذكاء وقوة الشخصية، وبرزت في عدة مواقف كشخصية واعية قادرة على التفاعل مع الأحداث الكبرى حولها.

كانت زوجةً للصحابي الجليل سعد بن خولة، الذي شارك في غزوة بدر وأصيب فيها، ثم توفي لاحقًا بالمدينة، وكان ذلك خلال حجة الوداع. وقت وفاة زوجها كانت سُبيعة حاملاً، وهو ما جعل حالتها استثنائية عند النظر في مسألة العِدّة.

الحدث الذي غيّر فقه العدّة

بعد وفاة زوجها، لم تمكث سُبيعة طويلاً حتى وضعت حملها، وبعد انقضاء النفاس تجمّلت للخطاب، فأنكر عليها بعض الناس هذا التصرف، واعتبروه مخالفًا للمتعارف عليه من عدّة الوفاة التي حددها الله في القرآن بأربعة أشهر وعشرة أيام. لم تتقبل سُبيعة هذا الاعتراض دون تحقُّق، بل قررت الذهاب إلى رسول الله ﷺ بنفسها، وسألته عما إذا كان من حقها أن تتزوج بعد وضع حملها.

فقال لها النبي ﷺ قولًا فصلًا:
“قد حللتِ حين وضعتِ حملك.”
(رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي)

ومن هنا، نزل الحكم الشرعي الصريح الذي اعتُمد لاحقًا، ونصّ على أن المرأة الحامل التي يتوفى عنها زوجها، تنتهي عدّتها بوضع حملها، لا بالأشهر الأربعة والعشرة أيام.

دلالات فقهية وإنسانية

ما جرى مع سُبيعة لم يكن مجرد سؤال شرعي عابر، بل لحظة فارقة في تاريخ التشريع الإسلامي. فقد كشفت هذه الحادثة عن أمرين مهمين:
1. مرونة الشريعة الإسلامية وقدرتها على التعامل مع الحالات الفردية بما يناسبها من رحمة وعدالة.
2. إثبات دور المرأة في صناعة الفقه الإسلامي، حيث لم يكن الرجل وحده هو من يسأل أو يُشَرّع، بل كانت المرأة شريكة في تلقي وتثبيت الأحكام.

مكانتها في كتب السنة والفقه

خلّدت كتب الحديث والفقه اسم سُبيعة بنت الحارث، واعتُبر حديثها أصلًا من أصول باب العدّة، ويُدرّس في المدارس العلمية والجامعات الشرعية إلى يومنا هذا. وقد تناوله كبار المحدثين والفقهاء، كالبخاري ومسلم، وذكره الإمام النووي وابن حجر في شروحهم، مستدلين به على صحة عدّة الحامل المنتهية بالولادة، أيا كان زمنها بعد الوفاة.

امرأة من طراز نادر

كانت سُبيعة مثالًا للمرأة المؤمنة القوية، التي تعرف دينها وتسأل عنه دون تردد، وتحمل في قلبها شجاعة الموقف وصحة التوجه. لم يمنعها الحزن على زوجها، أو الأعراف المجتمعية، من أن تذهب بنفسها لتسأل رسول الله ﷺ عن حقها، بل فعلت ذلك بثقة ووعي.

قصة سُبيعة بنت الحارث ليست فقط قصة فقهية، بل هي درس في الوعي، والثقة، والشجاعة، ودور المرأة في بناء المجتمع الإسلامي، وفي المساهمة في ترسيخ الأحكام التي تسير عليها الأمة حتى اليوم. لقد صنعت سُبيعة بتاريخها الفقهي والإنساني بصمةً خالدةً لا تُنسى، لتبقى رمزًا للمرأة التي تصنع الفرق بصوتها وفكرها وإيمانها.

تم نسخ الرابط