عاجل

الخنساء.. من رثاء صخر إلى وداع الأبناء الأربعة في ميادين الجهاد

قصة الصحابية الخنساء
قصة الصحابية الخنساء

في الوقت الذي اقترنت فيه صورة المرأة في الجاهلية والروايات التاريخية بالرثاء والجزع، تبرز شخصية الخنساء – تماضر بنت عمرو السلمية – كرمز فريد للثبات والعطاء والتضحية. لم تكن مجرد شاعرة تُجيد الرثاء، بل تحولت في الإسلام إلى أيقونة للإيمان والصبر، وقد سطّرت واحدة من أندر صور التفاني حين دفعت بأبنائها الأربعة إلى ساحات الجهاد، ليستشهدوا جميعًا في سبيل الله

ولادتها ونشأتها :

ولدت الخنساء، واسمها الحقيقي تماضر بنت عمرو بن الحارث السُّلمية، في بادية نجد في الجزيرة العربية، وعاشت في كنف قبيلة سُليم، إحدى القبائل العربية الشهيرة بالقوة والشرف والفصاحة. نشأت في بيئة قبلية صارمة، حيث كان الفخر بالنسب، والقوة، والبلاغة من أهم السمات التي تُحدد مكانة الفرد، سواء أكان رجلًا أم امرأة. وبرغم الطبيعة الذكورية لتلك المجتمعات، استطاعت الخنساء أن تحفر لنفسها اسمًا خالدًا في عالم الشعر، والسياسة القبلية، والإيمان

طفولة شاعرة… ونبوغ مبكر

منذ صغرها، عُرفت الخنساء بقوة الشخصية، وفصاحة اللسان، وذكاء حاضر، وسرعة بديهة. وقد بدأت تنظم الشعر في سن مبكرة، وسرعان ما صارت تنافس كبار شعراء قبيلتها. لكن الحدث الأبرز في حياتها – والذي شكّل مسارها الشعري – كان مقتل شقيقها صخر، الذي كانت تُكنّ له حبًا شديدًا، وكان سندًا لها في الحياة. رثته بقصائد تُعد من أبلغ ما قيل في الرثاء، حتى قال عنها النقاد: “أبلغ من رثى في الجاهلية، ولا يُجارى شعرها في الحزن والندب”.

ومن أشهر ما قالت فيه:

يذكِّرني طلوعُ الشمس صخرًا
وأذكره لكل غروب شمس

إسلامها… من الشجن إلى اليقين

مع ظهور الإسلام، لم تتردد الخنساء في إعلان إيمانها، وكان إسلامها علامة فارقة في حياتها. التقت بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وأُعجب بشعرها، وقال عنها: “هي أشعر نساء العرب”.

لكن التحول الأكبر لم يكن في شهادة الناس لها، بل في مضمون شعرها وأسلوبها في الحياة، إذ استبدلت الجزع بالصبر، والحزن بالإيمان، والدموع بالرضا بقضاء الله.

الأم التي أنجبت الشهداء الأربعة

في واحدة من أعظم مشاهد التضحية التي رصدها التاريخ، دفعت الخنساء بأبنائها الأربعة إلى معركة القادسية، في عهد الخليفة عمر بن الخطاب. لم تكن كلماتها لهم مليئة بالدموع، بل بالحماسة والإيمان، وقالت لهم قبيل المعركة:

“يا بني، إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين… فإذا أصبحتم غدًا فاغدوا إلى قتال عدوكم، واستعينوا بالله، واثبتوا تُؤجروا”.

وقد نالوا الشهادة جميعًا في يوم واحد. وعندما وصلها الخبر، لم تُجزع، بل قالت بثبات عجيب:

“الحمد لله الذي شرّفني باستشهادهم، وأرجو أن يجمعني الله بهم في مستقر رحمته”

من صوت الرثاء إلى صمت اليقين

الخنساء جمعت بين نقيضين نادرين في امرأة واحدة: الشاعرة التي أبكت الصخر حين رثت أخاها، والمؤمنة التي كتمت دمعها واحتسبت أبناءها الأربعة عند الله. لم تُخلِّدها القصائد وحدها، بل خلّدتها المواقف، وصارت أيقونة حقيقية تُدرّس في الأدب والفقه والتاريخ الإسلامي.

رحيل هادئ وبصمة لا تُمحى

توفيت الخنساء بعد معركة القادسية، على الأرجح في خلافة عثمان بن عفان، بعد حياة حافلة بالشعر والمجد والإيمان. ورغم مضي القرون، لا تزال قصتها تُروى كنموذج نادر لامرأة آمنت، فأخلصت، وربّت، فضحّت… وخلّدت

تم نسخ الرابط