في اليوم العالمي للفلسفة| د.أحمد سالم : أداة لبناء إنسان متسامح مسؤول بيئيا
يعدّ اليوم العالمي للفلسفة، الذي يُحتفل به في الخميس الثالث من شهر نوفمبر كل عام؛ يعد مناسبة دولية أعلنتها منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) لتسليط الضوء على الأهمية الدائمة للتفكير الفلسفي في حياتنا اليومية، وفي تشكيل المجتمعات.
ذكرى الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة
وقال الدكتور أحمد البدوي سالم، أستاذ العقيد والفلسفة المساعد في كلية الدراسات الإسلامية، والعربية جامعة الأزهر، لا يقتصر الاحتفال بهذا اليوم على الأكاديميين والمفكرين فحسب، بل هو دعوة مفتوحة للجميع للتأمل في القضايا الأساسية للوجود، والقيم، والمعرفة، وكيف يمكن للفلسفة أن تكون أداة حيوية لمواجهة التحديات المعاصرة.
وأوضح أنه في هذا العام 2025 يرتكز اهتمامي في الاحتفال بالفلسفة على عدة مرتكزات، هي:
1- الفلسفة وبناء الإنسان: من الوعي إلى الفعل: تُعتبر الفلسفة، في جوهرها، تمرينًا مستمرًا على النقد الذاتي والتفكير النقدي، وهي تلعب دورًا محوريًا في بناء الإنسان الواعي والمواطن الفعّال: فالفلسفة تعمل على تنمية الوعي الذاتي: تبدأ الفلسفة بسؤال "من أنا؟" و"ماذا يجب أن أفعل؟". هذا الاستجواب الذاتي (على غرار منهج سقراط) يُحرر الفرد من الانقياد الأعمى للعادات والتقاليد غير المدروسة، ويساعد الفرد على فهم دوافعه وقيمه الحقيقية، مما يؤدي إلى اتخاذ خيارات أكثر أصالة ومسؤولية.
كذلك التحرر من الأخبار الزائفة: تُعلّمنا الفلسفة التواضع المعرفي، والاعتراف بأن المعرفة البشرية نسبية ومحدودة، هذه الروح النقدية ضرورية لمقاومة التفكير الأحادي، وتُشجع على البحث المستمر عن الحقيقة بدلاً من الاكتفاء بالإجابات المعلبة التقليدية الجاهزة.
إضافة إلى بناء القيم والأخلاق: فمن فروع الفلسفة: الأخلاق (Ethics) وهي تعمل على تقديم أدوات لفحص المبادئ التي تحكم السلوك البشري (مثل التفكير، العواقبية أو الواجبية). هذا التمحيص يُمكن الفرد من تحديد المسؤوليات تجاه الذات والآخرين والمجتمع، مما يصب في بناء مواطن أكثر التزامًا بالقيم الإنسانية العليا.
2- الفلسفة والتسامح: جسر للحوار وقبول الآخر: في عالم يتميز بالتنوع الثقافي والديني والسياسي، تُعد الفلسفة بمثابة آلية أساسية لتعزيز التسامح والحوار بين الحضارات: فالفلسفة تعمل على فهم المنظورات المتعددة: فهي تُعلّمنا أن كل وجهة نظر تنبع من سياق معرفي مختلف، وأن ما يبدو "صحيحًا" بالنسبة لنا قد لا يبدو كذلك للآخرين. والفلسفة في الأساس تعني فن الاستماع الجيد للوصول إلى الحجة، وليست مجرد الاستماع إلى الكلمات.
والفلسفة أيضا تعمل على إرساء قواعد الحوار العقلاني: تُوفر الفلسفة منهجية صارمة لتبادل الآراء بدلاً من اللجوء إلى العنف أو الإكراه، فهي تُركز على المنطق (Logic) ووضوح المفاهيم، مما يُحوّل الاختلاف إلى عملية بناءة بدلاً من ان يكون مصدرًا للنزاع.
كما أن الفلسفة تعمل على رفض التعصب والتعميم: فالمنهج الفلسفي يُحارب التعصب عبر مطالبة المُتعصب بتقديم تبرير عقلاني لمواقفه والاستدلال على أطروحاته بمنهجية، وإذا لم يمتلك الحجة أو البرهان فسرعان ما يتهافت زعمه، ويتبين كذب دعواه، وهذا ما يكشف التعصب ويبين عجزه، والذي يخسر دائما أمام منطق العقلانية والحجة، فالفلسفة تُقدم إطاراً قوياً لتقويض الأحكام المسبقة وتعميم الصور النمطية.
3- الفلسفة والاستدامة: نحو إعادة تعريف علاقة الإنسان بالطبيعة: لم تعد الفلسفة مجرد ترف فكري، بل أصبحت ضرورة وجودية لمواجهة الأزمات العالمية، وفي مقدمتها أزمة الاستدامة (Sustainability) والتغير المناخي،
والفلسفة المعاصرة تعمل على:
إعادة تقييم القيم المادية: تُشجع فروع مثل الأخلاق البيئية (Environmental Ethics) على إعادة التفكير في الفرضيات التي تقوم عليها الرأسمالية والنزعة الاستهلاكية.
هل النمو الاقتصادي اللامحدود هو الخير الأسمى؟
توسيع الدائرة الأخلاقية: تدعو الفلسفة البيئية إلى توسيع دائرة الاعتبار الأخلاقي لتشمل الكائنات غير البشرية والأنظمة البيئية بأكملها. هذا التحول الفلسفي يُبعدنا عن المركزية البشرية (Anthropocentrism) المطلقة، ويُرسخ مسؤولية الإنسان تجاه الأجيال القادمة.
التفكير في العدالة: تتناول الفلسفة قضايا العدالة بين الأجيال (Intergenerational Justice). أي نوع من الموارد والبيئات يجب علينا أن نورثه للأجيال القادمة؟ وهذا ما يطرح فكرة أن يكون التفكير والاستشراف والدراسات المستقبلية بمنهجية وموضوعية ينبغي أن يكون فريضة للتعامل مع الحاضر بعقلانية لخدمة الإنسانية.
واختتم: تُثبت الفلسفة في يومها العالمي أنها ليست مجرد سجل لتاريخ الفكر، بل هي ممارسة حية ضرورية للخروج من التنظير إلى العمل والارتقاء بالوعي الإنساني، والفلسفة أداة لبناء إنسان متسامح، مسؤول بيئيا، قادر على التفكير النقدي في وجه التحديات المعقدة في القرن الحادي والعشرين.





