في كفارة اليمين.. ما حكم من عجز الإطعام؟ .. الإفتاء توضح
أكدت دار الإفتاء المصرية فيما ورد إليها من سؤال في كفارة اليمين.. ما حكم من عجز الإطعام؟ إذا حنث الحالف في يمينه وجب عليه أداء الكفارة، وهو مخيَّر فيها بين إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة، فإن عجز عن ذلك كله كان عليه صيام ثلاثة أيام، فإذا قام بأيٍّ منها اعتُبرت ذمته بريئة، وإن لم يفعل، بقيت ذمته مشغولة ويُسأل عنها، وإذا بدأ بالإطعام ثمَّ عجز عن إتمامه، فإنَّه يجوز له الانتقال إلى صيام ثلاثة أيام، ولا يلزمه انتظار تحسُّن حاله أو حصول يساره؛ إذ المعتبر في الكفارات هو وقت الأداء.
التخيير في كفارة اليمين
الأيمان من العقود المؤكدة التي يجب صونها والوفاء بها؛ لقوله تعالى: ﴿وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ﴾ [المائدة: 89]، والبر بها من تمام التقوى وصدق العبودية، غير أنه إذا كان في لزوم اليمين تفويت لمصلحة أرجح أو ارتكاب لمعصية شرع الحنث والتكفير؛ لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا، فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ» أخرجه الإمام مسلم.
ومن المقرر شرعًا أن اليمين المنعقدة إذا حنث صاحبها وجبت فيها الكفارة، وهي المنصوص عليها في قوله تعالى: ﴿فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ﴾ [المائدة: 89].
والحنث في اليمين هو مخالفة الحانث لما حلف عليه، سواء كان ذلك بالفعل أو بالترك. فإذا خالف الحالف ما التزمه في يمينه عامدًا، فقد أجمع الفقهاء على أنه يحنث وتلزمه الكفارة، وهو مخير فيها بين: إطعام عشرة مساكين، أو كسوتهم، أو عتق رقبة، فيجزئه الإتيان بأيٍّ منها إذا كان قادرًا ومتمكنًا، كما اتفقوا على أنه لا يجوز له العدول إلى الصيام إلا عند عجزه عن جميع هذه الخصال، فإذا انتقل حينئذٍ يصوم ثلاثة أيام، ويجزئه ذلك من غير انتظار إلى تحول حاله أو حصول يساره.
قال الإمام ابن المنذر في “الإشراف”: أجمع أهل العلم على أن الحانث في يمينه بالخيار: إن شاء أطعم، وإن شاء كسا، وإن شاء أعتق، أي ذلك فعل يجزئه…، وأجمع أهل العلم على أن الحالف الواجد للإطعام، أو الكسوة أو الرقبة: لا يجزئه الصوم إذا حنث في يمينه.
وقال الإمام ابن حزم في “مراتب الإجماع”: اتفقوا أن من عجز عن رقبةٍ وكسوةٍ وإطعامٍ من حر أو عبد ذكر أو أنثى في حين حنثه فكفر حينئذٍ ولم يؤخر إلى تبدل حاله فصام ثلاثة أيام يجوز صيامها متتابعات أجزأه.
حكم التلفيق في كفارة اليمين بالتبعيض
كفارة اليمين لا تصح بالتبعيض، فلا يجزئ أن يصوم المكلف بعض الأيام ثم يطعم بعض المساكين، أو يبتدئ المكلف بالإطعام ثم يتحول إلى الصيام، بل إذا عجز المكلف عن الإطعام وجب عليه استئناف صيام ثلاثة أيام كاملة، وما وقع من إطعام ناقص فإنه يعد صدقة يثاب عليها، ولا يسقط به شيء من الكفارة.
قال الإمام محمد بن الحسن الشيباني الحنفي في “الأصل - المعروف بالمبسوط” في باب الطعام والصيام في كفارة اليمين: ولو أن رجلًا أطعم خمسة مساكين في كفارة يمينه ثم احتاج كان عليه أن يستقبل الصيام ولا يجزي ذلك الطعام عنه…، ولو أن رجلًا صام يومين ثم أفطر وأطعم ثلاثة مساكين أو بدأ بالطعام ثم الصيام لم يجزه ذلك، وكان عليه أن يستقبل الصوم إن كان لا يجد ما يطعم.
وقال الشيخ الدردير المالكي في “الشرح الكبير - مع حاشية الدسوقي”: ولا تجزئ الكفارة حال كونها ملفقة من نوعين فأكثر، كإطعام مع كسوة.
وقال الإمام النووي الشافعي في “روضة الطالبين”: لا يجوز تبعيض كفارة، بأن يعتق نصف رقبة، ويصوم شهرًا، أو يصوم شهرًا، ويطعم ثلاثين.
وقال الإمام البهوتي الحنبلي في “شرح منتهى الإرادات” عند كلامه عن كفارة اليمين: لا يجزئ تكميل الطعام أو كسوة بصوم؛ لأنه لم يصم ثلاثة أيام ولم يكس أو يطعم عشرة مساكين كبقية الكفارات، فلا يجزئ فيها تكميل عتق بصوم أو إطعام، ولا تكميل صوم بإطعام.
اختلاف الفقهاء في الوقت المعتبر في الكفارات
تختلف الكفارة بحسب حال الحانث في اليمين من اليسر والإعسار، فإذا حنث وهو موسر، فهو مخير بين: الإطعام والكسوة؛ لأن حكم العتق زال بزوال محله وهو الرق، ولا يوجب الصوم إلا عند العجز. وإذا حنث وهو معسر، وجب عليه الصوم؛ لأنه عجز عن الإطعام والكسوة.
أما إذا طرأ عليه الإعسار بعد كونه موسرًا ولم يكفر فاختلف الفقهاء حينئذ، بناء على اختلافهم في الوقت المعتبر في الكفارات أهو وقت الأداء أم وقت الوجوب؟
فذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في أظهر الأقوال إلى أن المعتبر في الكفارة هو وقت الأداء، وعللوا ذلك بأن جانب العبادة هو الغالب فيها، والاعتبار في العبادات إنما يكون بحال المكلف عند الامتثال، قياسًا على الصلاة: فمن فاتته وهو عاجز عن القيام ثم قضاها قادرًا صلاها قائمًا، ومن فاتته وهو قادر ثم قضاها عاجزًا صلاها قاعدًا، فدل ذلك على أن المدار على حال الأداء دون حال الوجوب، وعلى هذا فمن كان موسرًا ثم أعسر قبل التكفير، تعين في حقه الصوم.
قال الإمام الكاساني الحنفي في “بدائع الصنائع” عند كلامه عن كفارة اليمين: اختلف في أن المعتبر هو القدرة والعجز وقت الوجوب أم وقت الأداء، قال: أصحابنا رحمهم الله: وقت الأداء… حتى لو كان موسرًا وقت الوجوب ثم أعسر جاز له الصوم عندنا.
وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في “عيون المسائل”: الاعتبار في الكفارة وقت الأداء، مثل أن يحلف وهو معسر، فحنث وهو موسر أو بالعكس، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الإمام النووي الشافعي في “روضة الطالبين”: هل الاعتبار في اليسار والإعسار بوقت الأداء، أم بوقت الوجوب، أم بأغلظ الحالين؟ فيه أقوال: أظهرها: الأول، أي: وقت الأداء.
وذهب الشافعية في قول، والحنابلة في أظهر الروايتين إلى أن المعتبر في الكفارة هو وقت الوجوب لا وقت الأداء، فإذا حنث وهو موسر ولم يكفر حتى صار معسرًا، وجب عليه التكفير بالإطعام أو الكسوة دون الصيام، وتظل الكفارة باقية في ذمته حتى يوسر فيكفر، ويستحب له تعجيل التكفير بالصوم خوفًا من فواتها.
وقال الإمام الماوردي الشافعي في “الحاوي الكبير”: هل يعتبر بالكفارة حال الوجوب أو يعتبر بها حال الأداء؟ أحدها: أن المعتبر بها حال الوجوب وهو المنصوص عليه في هذا الموضع من كتاب الأيمان، فإذا حنث وهو موسر فلم يكفر بالمال حتى أعسر ففرضه التكفير بالمال دون الصيام وتكون الكفارة باقية في ذمته حتى يوسر فيكفر، ويستحب له أن يعجل بالتكفير بالصيام استظهارًا حذرًا من فوات التكفير.
وقال الإمام شمس الدين الزركشي الحنبلي في “شرحه على مختصر الخرقي” في الصيام في كفارة اليمين: وقد اختلف عن إمامنا رحمه الله في هذه المسألة، فعنه كما هو ظاهر كلام الخرقي الاعتبار بحال الوجوب، وهذا اختيار القاضي في تعليقه، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن شهاب وأبي الحسين، والشيرازي، وابن عقيل وغيرهم؛ لأنه حين الاستقرار في الذمة، لأن لو فعل ما وجب عليه إذ ذاك لأجزأه بلا ريب، ولأن الكفارة وجبت على وجه الطهرة، فاعتبرت بحال الوجوب كالحد.
وذهب الشافعية في قول ثالث مخرج، والحنابلة في رواية أخرى إلى أن المعتبر بالكفارة أغلظ الأمرين من وقت الوجوب ووقت الأداء؛ لأنها تكفير عن ذنب، فكانت بالتغليظ أخص، ولأنها حق ثابت في الذمة متى وجد المال، فأشبهت الحج إذ لا يجب إلا مع تحقق اليسار.
قال الإمام البغوي الشافعي في “التهذيب”: الاعتبار فيما يجب أن يكفر به بحالة الوجوب، أم بحالة الأداء فيه ثلاثة أقوال، القول الثالث: يعتبر فيه أغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى حين الأداء؛ لأنه حق يجب في الذمة، لوجود المال، فيعتبر فيه أغلظ الأحوال كالحج.
وقال الإمام شمس الدين الزركشي الحنبلي في “شرحه على مختصر الخرقي”: وقد اختلف عن إمامنا رحمه الله في هذه المسألة، وعنه: الاعتبار بأغلظ الأحوال، اختارها القاضي في روايتيه، وحكاها الشريف وأبو الخطاب عن الخرقي…، وجه هذا القول بأنه حق يجب في الذمة بوجود مال، فاعتبر بأغلظ الحالين كالحج.
المختار للفتوى في الوقت المعتبر في الكفارات
المختار للفتوى أن المعتبر في الكفارات هو حال المكلف من عسر أو يسار وقت الأداء دون حاله وقت الوجوب؛ لأن التكليف يتعلق بزمن الامتثال، إذ هو الوقت الذي تتوجه فيه المطالبة بالفعل، والتكليف باعتبار حال ماضٍ قد تغير يوقع في العسر والحرج، بخلاف اعتبار الحال الحاضر فإنه أيسر في التقدير وأقرب إلى مقصود الشرع من رفع المشقة ودفع الحرج، وعليه: فمن حنث وهو موسر ثم طرأ عليه الإعسار ولم يكفر جاز له أن يكفر بالصيام؛ لأنه عجز عن المبدل وهو الإطعام أو الكسوة فيجوز له العدول إلى البدل وهو الصيام.



