لم يعد المشهد الشرق أوسطى يحتمل أوهام التوازنات القديمة، ولا أوهام “السلام البارد” الذى عاش على أنفاسه الإقليم منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد قبل أكثر من أربعة عقود. ما جرى خلال الساعات الماضية من استهداف إسرائيلى لقيادات فلسطينية داخل الأراضى القطرية لم يكن مجرد عملية عسكرية عابرة، بل إعلان صريح – مسجَّل بعلم الوصول – بأن تل أبيب تمضى فى مخططها الاستراتيجى بلا تردد . تصفية القضية الفلسطينية، ضم غزة، ثم التمدد إلى الضفة، دون أن تعبأ باتفاقيات ولا عواقب.
الرسالة أبعد من اغتيال، وأخطر من عملية نوعية. إسرائيل اختارت أن توسّع خارطة النار، لتُصيب فى ظرف يوم واحد أهدافاً فى تونس ولبنان وسوريا وغزة والدوحة، وكأنها تقول للعالم: “يدى الطولى فوق الإقليم كله”. هذه ليست مغامرة، بل تثبيت لقواعد تفوق جوى واستراتيجى، يفرض إيقاعاً جديداً على الشرق الأوسط بأسره.
لكن دلالة الضربة فى قطر لا يمكن تجاهلها؛ فالدولة الصغيرة المستظلة بحماية عسكرية أمريكية، والمنخرطة فى مظلة دفاع مجلس التعاون الخليجى، وأحد طرفى الوساطة لوقف الحرب، تلقت هى الأخرى طعنة إسرائيلية مباشرة. ذلك يعنى أن واشنطن – صمتاً أو تفويضاً – منحت الغطاء السياسى والعسكرى لهذه العملية. الأخطر أن الإدارة الأمريكية الحالية مشبعة برؤية اليمين المسيحى المتطرف، الذى ينظر للصراع العربى–الإسرائيلى بعيون لاهوتية منحازة، لا سياسية متوازنة.
وسط هذه الزلازل، يظل محور الصراع الفعلى متمركزاً فى غزة، الملاصقة للحدود المصرية. هنا تتحول القضية إلى تهديد مباشر للأمن القومى المصرى؛ فكل مخطط للتهجير أو إعادة رسم الخريطة السكانية يضع سيناء – قلب الأرض المصرية – فى بؤرة الاستهداف. غير أن القاهرة كانت، وما زالت، متنبهة منذ اليوم الأول. رسائلها المعلنة والمضمرة واضحة: مصر لن تسمح بتمرير هذا السيناريو كنزهة عسكرية، ولا كأمر واقع يُفرض عليها. على الأرض، أعادت فرض واقع عسكرى محكم فى سيناء، يحصّن حدودها ويدافع عن سيادتها.
إن أخطر ما نعيشه اليوم ليس اندفاع إسرائيل وحدها، بل التحالف الصامت بين “إرادة التوسع الإسرائيلية” و”التفويض الأمريكى”، فى ظل نظام دولى مرتبك، ومؤسسات أممية عاجزة. هذا المشهد يفتح الباب على مصراعيه أمام انهيار البنية التى قامت عليها تسويات السبعينيات، بما فيها كامب ديفيد، تلك الاتفاقية التى شكّلت – رغم كل ما يقال عنها – صمام أمان لاستقرار الشرق الأوسط.
اليوم، ومع كل صاروخ يطير فى سماء غزة أو بيروت أو دمشق، ومع كل عملية اغتيال عابرة للحدود، ومع كل مخطط تهجير يطل برأسه، تتهاوى ركائز الاستقرار القديم. لم يعد السؤال هل سقطت كامب ديفيد؟! بل اصبح :ماذا بعد السقوط؟ وأى خريطة جديدة للمنطقة تُرسم بالدم والنار؟
المؤكد أن مصر، بتاريخها وموقعها وثقلها، لن تكون متفرجاً. فهى صاحبة اليد العليا فى تحديد معادلة الأمن الإقليمى، وهى التى تدرك أن معركة غزة ليست معركة حدود، بل معركة وجود.