عاجل

كانت تدرك في أعماقها أن ما يردّده من كلمات معسولة وما يتصنّعه أحيانًا من حنان عابر لم يكن سوى ستار رقيق يخفي وراءه ملامح صامتة تنكر حضورها؛ فما أزهرت عيناه يومًا بإعجاب، ولا تنبّه إلى ما في رقتها من جمال خفيّ لو التفت إليه لامتلأ به حبًّا، وكانت تستشعر ذلك بصمت بحسها المرهف الذي لم تخطئه الفطرة، وتزداد يقينًا كلما رأت ارتياحه في صحبة أخريات بينما لا يلتفت إلى حضورها أصلًا إذا اجتمع بهن، كأنها غدت ظلًا باهتًا بجواره، وكان ذلك عندها أوجع من خيانة الجسد لأنه خيانة مشاعر تهمّشها وتقصيها من قلبه دون أن ينطق كلمة. ومع أنها كانت رقيقة الروح نقيّة السريرة يأنس بها كل من يلقاها وتترك في القلوب أثرًا دافئًا يجعلها محبوبة، إلا أنه كان وحده زاهدًا فيها؛ كأنما انطبق عليها المثل القائل: زامر الحي لا يطرب، لم يرَ في نقائها ما يراه غيره، وربما كان زهدُه لأنها صارت بين يديه أو لأنه لم يشغل نفسه أصلًا بأن يتأمل حقيقتها، فكثيرون يزهدون فيما يملكونه حتى لو كان أثمن من الذهب. وربما لم يكن الأمر خطيئته وحده، بل انعكاسًا لاختيارات مجتمع وأهل رأوا فيهما شريكين مناسبين فدفعاهما إلى زواج صالونات جافّ، فهي قد تكون جميلة الروح رقيقة الحضور لكنها لم تكن من النوع الذي يميل إليه قلبه أو يجد فيه انجذابه الخاص، وهكذا بدأ البناء على أساس هشّ لا يقوم على ميلٍ حقيقي ولا رغبة صادقة. وحين كان يقترب منها كانت تستشعر بحسها المرهف أن اندفاعه لم يكن صادرًا عنها هي بل عن أثر حديث أو نظرة سبقت مع أخرى، فيأتيها مثقلاً بوهج ليس لها لتغدو عنده صدى باهتًا لامرأة غيرها تسكن خياله. كانت تفسّر كل قول يصدر عنه وكل فعل يبدر منه تفسيرًا نقيًّا يجمّل صورته في عينيها، وما أسسته هي ببراءتها كان هو يأبى إلا أن يتهدّم بفعل واقعه القاسي فتُعيد هي ترميم البناء من جديد، ومع مرور الأعوام لم يعد حتى يتجمّل بأبسط مظاهر المودة بل تعامل معها كأمّ ترعاه لا كزوجة تشاركه الحياة. وحين كبر الأبناء وأحسّ بخطر شعورهم بعدم تقديره لأمهم أخذ يتصنّع الحنان أمامهم ويمطرها بتدليل زائد يوحي بانعدام المصداقية أكثر مما يدلّ على حب، ولو كان تصنّع الحنان بدافع إرضائها هي لكان بعث في نفسها بعض السلوى، لكن المؤلم أنه كان يفعل ذلك فقط إرضاءً لأولاده ليُظهر لهم أنه ممتن لأمهم بينما هي في داخلها تدرك أنها غائبة عن قلبه، وذلك كان أوجع من أن يعلن عداوته أو يفصح عن كرهه بل حتى من أن يفصلها عن حياته. وهكذا عاشت أعوامها بين وهم تصنعه بيديها وواقع يهدمه هو بيديه، ولو أنه عجز عن أن يمنحها حبًا صادقًا لكان أجدر به أن يفارقها إلى إحداهنّ ممّن أعجبنه ويتركها لقدرها؛ فلعلها تجد من يحبّها بصدق فهي تستحق ذلك. وفي نهاية المطاف على الأمهات ألّا يقمن باختيار زوجات أبنائهن على مقاييس اجتماعية بحتة،ه فيبحثن عن بنت العائلة المرموقة أو صاحبة الأهل ذوي المراكز ويغفلن أن القلب لا يُقاد بتلك الحسابات، فحين يُنتزع حق الابن في أن يختار من تميل إليها نفسه ويأنس بها قلبه تصبح الزوجة المختارة ضحية؛ ضحية أمٍّ لم ترَ فيها سوى الزوجة المناسبة اجتماعيًا بينما هي ببراءة الصبا صدّقت أنها محبوبة لديه حقًا. أما ما يهدم البيوت حقًا فهو أوهام الاستمرار بأي ثمن؛ فالطلاق الصامت يقتل الحبّ ويُفقد الأبناء الأمان، والطلاق غير المتحضّر يزيد الجراح حين يتنصّل الأب من مسؤوليته عن أبنائه لمجرّد أنه افترق عن أمهم وكأن رعايته لهم أو إنفاقه عليهم لم يكن نابعا من مشاعر الأبوة ومسؤوليتها بل مجرّد مجاملة لأمهم. إن البيوت لا تقوم على جدران تُشيّد، بل على قلوب عامرة بالمودّة والرحمة، فإذا غابتا لم يبقَ إلا فراغ قاسٍ يورث الشقاء، وحينها يكون الفراق الكريم أصدق وأرحم من بقاءٍ زائف يعلّم الأبناء الخوف من الحب والنفور من الزواج.

تم نسخ الرابط